صلاح الدين عووضة يكتب : كبــدة!!
15 ابريل 2022م
رمضان كريم..
واليوم هو الجمعة..
وهو اليوم الذي نهرب فيه من السياسة..
كهروب غالب السودانيين من مألوف الطعام إلى أطعمةٍ بعينها..
سيما في رمضان… ومن بينها الكبدة..
وكل جمعة من رمضان كان رفقاء طفولتي – ودراستي – بالعقدة يشتهونها..
ثم يجدون ضالتهم في مائدة الحارث منصور..
وصباح اليوم التالي – ونحن ذاهبون إلى المدرسة – يجترون ذكرى الكبدة..
ويتغنون بها بما يشابه غناء الشاعر والمغني:
في قلبي ذكراها
ما زلت أطراها
وتتردد مفردة (كبدي) على ألسنتهم إلى أن نبلغ المدرسة ونحن جوعى..
والعقدة هذه ضاحية من ضواحي كريمة..
وقد لبثت فيها – وفي كريمة – من عمر طفولتي سنينا… قبل مغادرتها لحلفا..
وكان بها مصنع تعليب الخضر والفاكهة..
وحينها لم تكن بلادنا تستورد من معلبات الخضر – والفواكه – إلا قليلا..
ولكن (الحلو) – في بلادنا هذه – (ما يكملش)..
وهذا سبب وجودنا هناك أصلاً ؛ وجودنا في كريمة… وعقدتها..
كما اشتهى الكبدة هذه يوماً كمال عبد المولى..
وكمال هذا رفيق طفولة… ودراسة… وسياط ضحك..
فقد كان ضحَّاكاً… فأضحك أنا لضحكه… فانجلد – بالسوط – مع جلده..
يضحك في الفصل لأي سبب..
وأحياناً بلا سبب… كضحكه – المقهقه – ذاك على ذكر (عفريت من الجن)..
فأضحك أنا (بسبب) مجاورتي له بالفصل..
مجاورة من يضحك على ذكر (عفريت من الجن)… في حصة الدين..
وينسى أنه (عفريتٌ من البشر)..
وذات يوم خرجنا في فسحة الفطور… فقال كمال (لم لا نأكل كبدة اليوم؟)..
فقلت (أيوه صحيح… لم لا نأكل كبدة؟)..
وكانت كبدة ذات طعمٍ شهي؛ بمطعمٍ (في عقلي ذكراه… ما زلت أطراه)..
فهو شمال بقالة جبريل… وجنوب نادي النيل..
وجبريل هذا كان تاجراً لا يقل عن حارث العقدة ثراءً… وشهرةً… وسمعة..
ولا يقل – قطع شك – (أكل كَبدِي)..
ولكن طعمها – كبدة المطعم هذه – سرعان ما تبدد معظمه في الهواء..
تبدد من شفتينا… فلسانينا… فمزاجينا..
فقد نسيت فلوس إفطاري..
وصباح اليوم ذاته كان مدرس الرياضيات يردد عبارته الشهيرة في الفصل..
عبارة (وهل تنسون فلوس الفطور؟)..
وذلك لمن يقول إنه نسي أداء الواجب… أو نسي كراسة الإجابات ذاتها..
و(أهو)… فعلتها أنا ونسيت..
وسُقط في أيدينا… أنا وصديقي كمال..
ووطنا نفسينا على غسل الأطباق إن لم يتفهم عذرنا صاحب المطعم..
فما كان مع كمال من مال يكفي بالكاد لطلب فول..
واذا افترضنا أننا نجونا من هذه الورطة بغسل الأطباق – والطناجر – كلها..
فكيف ننجو من سياط الغياب عن بقية الدروس؟..
ولم ينقذنا من محنتنا تلك سوى رجلٍ كان يلتهم – هو نفسه – كبدة بجوارنا..
كان يبدو من مظهره الأنيق أنه موظفٌ ذو شأن..
وقال إنه سمع جانباً من نقاشنا عن ورطتنا..
وسألني ضاحكاً (أنت يا ولد… ود فلان؟) – أي الوالد – فأجبته بنعم..
فقال إنه زميله في المصنع..
ثم مضى قائلاً وهو يزداد ضحكاً (ابن مدير المصنع يغسل الأطباق؟)..
أنقذنا من ورطتنا – إذن – ذاك الرجل..
ولكنا وقعنا في ورطة أكبر… سببها كمال هذا أيضاً..
فما أن بدأت حصة ما بعد الإفطار حتى انفجرنا – أنا وكمال – ضحكاً..
فانفجر المدرس غضباً..
فقد تناهى إلى مسامعنا – داخل الفصل – ثغاء معزة بالخارج..
وكمال – كما ذكرت – يضحك لأي سبب..
أو يضحك بلا سبب؛ فأضحك أنا (بسبب) ضحكه… ضحكه المضحك..
فكان مصيرنا جلداً – مبرحاً – بالسوط..
فتبدد ما بقي من طعمٍ للكبدة في شفتينا… فلسانينا… فمزاجينا..
وبقي – فقط – ألمٌ في جوف كلٍّ منا..
في كبدته!!.