الأمين علي حسن يكتب : الشمالية.. عناق الدوبيت والطنبور (4)
13ابريل 2022م
عند الساعة الثامنة صباحاً غادر موكب الناظر الدبة بالطريق القومي في اتجاه القولد، العشرات انضموا للوفد وصار أكبر عدداً، على جنبات الطريق وقف المئات يُلوِّحون بأياديهم بإشارات الوداع، وظل الناظر يخرج يده يبادلهم ذات التحية.. كنت برفقة الفريق حقوقي إبراهيم حمد علي التوم وأستاذنا الصحفي الدكتور حسن محمد صالح والأخوين إبراهيم جامع علي التوم وموسى علي سالم، قصدنا أن نكون في مؤخرة الموكب لكي نجلس على شرفة الحدث ونشاهد الصورة من كل الزوايا وأمامنا رتلٌ من السيارات.
قرى عديدة وبيوت لا تعرف غير الطيبة والبساطة عبرنا بالقرب منها خرج أهلها؛ بعضهم يُلوِّح بيده وآخرون حملوا لافتات كُتبت عليها أسماء قراهم مُرحِّبين بالناظر.
في منتصف الطريق اعترضتنا مجموعة من السيارات ترجل أهلها يحملون لافتات ترحيب صافحهم الناظر فرداً فرداً، عرفنا لاحقاً أنهم كبابيش يسكنون هذه المناطق.
تحرّكنا منهم قليلاً لنجد قطيعاً من الإبل يتبعه اثنان من الرعاة ويتّجهان شرقاً نحو النيل، ويبدو أنهما يعرفان المداخل والمخارج أو في الغالب من سكان المنطقة، استطاعا أن يمزجا بين مهنتي الرعي والزراعة في ولاية كنا نظنها لا تعرف حرفة غير الزراعة والشتول.
لا أدري هل يمتلك الرعاة إمكانية الرعي بإبلهم في المراعي البعيدة وصادف مرورنا يوم ضماهم (اليوم الذي تأتي فيه البهائم لشرب الماء)، أم أنهم يرعون داخل الجزر والمزارع، أم أنها عابرة رغم أننا عرفنا لاحقاً أن هناك بعض البدو الكبابيش مازالوا يحافظون على مهنة الرعي بالضفة الشرقية من النيل.
عبرنا هذه الصور والمَشَاهد حتى وصلنا رومي البكري، المكان الذي أقيم فيه الاحتفال، وجدناها تعُج بالحشود في انتظار استقبال الناظر حسن، كانت الساحة تضج بأصوات الأغاني الحماسية.. عشرات الشباب على ظهور الجمال، صاح من كانوا معي بصوتٍ واحد وعلى طريقتهم الخاصة (يا ناس عووووك البلد بزامولها) (الزاملول أو الزمل الجمال) والبدوي دائماً لا يستطيع مقاومة منظر الجمال في المناسبات خاصةً إذا أخذت كل زينتها واعتلى الفرسان ظهورها، لذلك رأيت الذين جاءوا برفقة الناظر، كان تركيزهم على منظر الجمال واستعراضها أمام المنصة ولعلها دهشة اختلطت بالصورة الذهنية الراسخة بأن الشمال لا مكان فيه لرعاة الإبل، لكن هذه الزيارة غيرت الكثير من المفاهيم وأعادت تعريف الحياة من جديد.
كان أحدهم يردد بصوتٍ خفي: (ما سمعتي يا عشوش باللبسو كشكوش العب جمل كرموش وفتح خشوم البوش) من الموروثات القديمة في بادية الكبابيش – (البوش الاحتفال أو المناسبة أو لمة العرس).
كان الاحتفال يمثل لوحةً جماليةً بدوية في غاية الروعة، على المنصة نثرت روائع الدوبيت من قبل الشعراء، توقفت عند شاب صغير في السن نودي عليه من وسط الجموع (صبحي حماد) ولأني كانت تسيطر عليّ قناعة أن للدوبيت بيئته وعالمه، كنت أظن أن صبحي سيقدِّم مشاركة من أجل المشاركة فقط لا تطريب أو جماليات، ولكن كانت المفاجأة جمال المفردة الموغلة في البداوة والصور التعبيرية وسلاسة الأداء، حيث تفاعل الحضور بصورةٍ مُدهشة، وبعد نهاية مشاركته طلبه أستاذنا الصحفي دكتور حسن محمد صالح وأبدى إعجابه بأدائه، حينها تذكّرت شيخ شعراء السودان عبد الله الشيخ البشير وهو يُقدّم للمسرح في الليلة الثقافية بالقاهرة حيث كان تقديماً باهتاً باعتباره مجهولاً ولم يكن من المشهورين حينها في الساحة العربية ولكن بعد أن أخبرهم بقصته الإسرائية هذه:
* على حد السنا أمهيت سيفي فرفّت شفرتاه كما ابتغيت
* وودَّعت القُرَى الأولَى وشيكًا فما استصحبْت إلا ما انتويت
* فهأنذا يعـــــادي بي مِـــراحا بشطِّ الغيـــب مِرِّيحٌ كُــــميتُ
* رصائعُـــه مصابيحٌ سَــهارى لهُــنَّ خواطِـــر الحُذّاقِ زيْــت
* فطاف بعبقـــرٍ ليلا فهـــــرّت كلابُ الجنِّ: عِرفيطٌ وشيـْتُ..
فهتف له أحد شيوخ الأزهر بصورة لفتت كل الحضور وجعلت رئيس وزراء مصر فؤاد محيي الدين ينهض من مقعده ويتجه نحوه في المسرح ويمسك بيده ويوصله لمقعده مع حفظ الفوارق بلا شك بين صبحي وشيخ الشعراء.
على كل، شهدنا إبداعاً وحماساً وتفاعلاً في رومي البكري يفوق الوصف.
استمر الاحتفال لساعات، لنواصل رحلتنا حيث كانت المحطة الثانية لنا مدينة دنقلا حي الديم بالتحديد والذي هو الآخر وجدناه يغلي حماساً وتدافعاً والأهازيج الحماسية تملأ المكان، وتكرّر ذات المشهد بجماله ودوبيته، وهنا كان موعدنا مع شاعر دوبيت آخر محمد عوض الكباشي، وعلى طريقته الخاصة يبث الحماس في الحضور بصورة لم يستطع معها المنظمون إجلاس الناس في أماكنهم، حيث التدافع والدموع والعناق، كان احتفالاً تلقائياً، حتى وكلاء الناظر والعُمد تخيّروا الأماكن في وسط العامة بعيداً عن المراسم والبروتوكول وطقوس الزيارة.
كان الدوبيت يتفجّر كالبراكين والدموع تنهمر سيالة، كان تلاقي التاريخ والحاضر.. على بُعد خطوات من ميدان الاحتفال يقبع ديوان العمدة عيساوي أحد زعماء الكبابيش التاريخيين بالشمال، يتوسّط حي الديم العريق لما يزيد عن قرن من الزمان، وهنا دارت المعارك بين الكبابيش والأنصار في حامية حوش ود بشارة خاصةً بعد إعدام الشيخ التوم في الأبيض ومقتل شقيقه صالح في جبل العين والذي فجّر شرارة العداء بين الكبابيش والأنصار حتى ذهاب المهدية وهذا باب كبير وسفر تصعب قراءته من خلال هذه السطور.
وعلى مسافة ليست بالبعيدة حوش الشيخ ود رخا الكباشي والذي يعد واحداً من أقدم البيوت المسورة في حي الشيخ شريف وعموم دنقلا، وهو كذلك تاريخ وإرث كبير يتداول الناس هنا قصصه وحكاياته وبابه المفتوح للجميع.
يومان في دنقلا جعلتنا نفكر في إعادة صياغة الكثير من المفاهيم والمرويات، جعلتني أتساءل كيف لود رخا أن يذهب بجمله من دنقلا إلى حمرة الشيخ لكي يشارك في جلسة لمحكمة الشيخ علي التوم، وكيف استرد إبله التي نُهبت من غرب دنقلا وعبرت الصحراء غرباً، وكيف حافظ الكبابيش على الأوسام بالإبل وكيف ساعدتنا في كشف كثير من الأسرار.. وحتى نلتقي في القعب ومناطق المحس ومناطق الشايقية.
ونواصل