“كانت تفكر في الحقل”.. النص الفائز بجائزة الطيب صالح
كانت تفكر في الحقل
إسراء الريس
النص الفائز بالمركز الثالث في مسابقة الطيب صالح للشباب في القصة القصيرة الدورة الرابعة عشر للعام 2022م:
ذات مساء هادئ همست في أذني صديقتي زهرة السوسن، كان الليل قد انتصف ونسمات الصيف تداعبنا فنتمايل معها بشجن، في تلك الايام كان الحقل هادئا رغم الجفاف الذي بدأ يغزو المزرعة والذي راح ضحيته العديد من الاشجار.
في البداية تجاهلتها عن قصد، فسوسن وعلى الرغم من حماستها ولطافة حديثها الا انها وفي مثل هذه الاوقات بالذات وحين يغزوها شلال الافكار التي لا تنضب تبحث عن أنيس لتشاركه ما يختلج في ميسمها حينها دائما ما اكون انا ضحيتها الاولى فيطلع علي الصباح وأنا اجاهد للبقاء مستيقظة وهي تثرثر وتثرثر. كالعادة ملوحة ببتلاتها المختلجة.
تظاهرت بالنوم ولكنها عاتبتني قائلة:
– أعلم أنك مستيقظة يا زاميا
– ها قد بدأنا، ما بالك يا سوسن؟
– كنت أفكر في مستقبل هذه الحديقة، على الرغم من بيئتها الخصبة وتوفر كل الموارد من مياه وسماد وعاملين اثنين الا أننا على حافة الموت، إن ما يحدث لا يمت للعدل بصلة
_ ولكن ما حيلتنا نحن بهذه الأمور، لا تفكري في الأمر واخلدي للنوم أنت بحاجه الى النوم حتى تزهر [غصانك من جديد،
أغصاني! أي حياة سأهبها لهذه الأزهار المسكينة؟
نحن لا نملك الخيار فيما نحن عليه، لا نملكه الآن ولم نملكه يوما، هذا قدرنا فكفي عن التذمر ولا تنصبي نفسك المسؤول الأول عن كل كوارث النباتات
أغمضت زهرة السوسن سبلاتها ولكنها لم تنم في تلك الليلة ولا في الليالي التي تلتها، كانت تشعر بالمسؤولية تتعاظم على عاتقها كل يوم، ولكنها لا تدري ماذا تصنع
في أحد الأيام سمعت حديثا يدور بين الأزهار أن مجموعة من شتول البرتقال اليافعة تطالب بقية أشجار البرتقال بتنظيم الحقل والاستعانة بأشجار البلوط لجلب المياه من الجدول فلجذورها العميقة المقدرة على ذلك.
إن شجيرات البرتقال تجاهد في إنقاذ الحقل ولا توفر أي جهد على الرغم من الآفات التي بدأت في الانتشار وبرغم قسوة الصيف التي راح ضحيتها العديد من الشجيرات. كانت هذه هي الشرارة التي انتظرتها زهرة السوسن كثيرا، فبدأت في التواصل المباشر مع شجيرات البرتقال. ولم تأبه بنظرات الاستنكار التي كانت تطالها من اقرانها. كما وضعت الخطة وبدأت في حشد الأزهار اليانعة والشتيلات الصغيرات التي كانت تعول عليهن وترى أنهن مستقبل الحقل الذي جار عليه صاحبه على الرغم مما يقدمه من فاكهة وخضروات وورود ونباتات زينة وأعلاف وغيرها إلا أن المالك الجديد لا يعبأ بالأمر كثيرا بل لا يتوانى عن كل ما يقود الحقل الى التهلكة. فالمالك الجديد لا يسمع ولا يرى.
كانت زهرة السوسن مسكونة بالتساؤل كيف ارتضى صاحب الحقل أن يقف شاهدا على هذه القطعة من الجنة وهي تنحدر الى حافة الهلاك؟ كيف ارتضى ان تهدر كل هذه الموارد بل وسمح للآفات وأسراب الجراد ان تعيث فسادا في المكان ولكنها لم تجد اجابة.
قررت زهرة السوسن أن تقود حملة دعائية لتوعية نباتات الحديقة بضرورة مساندة شجيرات البرتقال في تنظيم الحراك الذي يعمل على إعادة الحقل الى الحياة. كل بمقدار ما لديه من عزم
في البداية لم تجد من يستمع إليها فهي موسومة منذ القدم بأنها زهرة حالمة لا تمت الى الواقعية بصلة فجميع من في الحقل كان قد سمع سابقا بأمنيتها في أن تمنح الثمار لتطعم أسراب الطيور التي تزور الحقل في فصل الخريف.
حتى أن والدها صحبها ذات يوم إلى شجرة النيم الحكيمة طمعا في اقناعها بأن تعدل عن الحديث في مثل هذه الاشياء الغريبة حتى لا تتعرض للمضايقة من قبل أقرانها وحتي لا يظن ان بها لوثة من الجنون. فقدر أزهار السوسن ان تمنح الازهار والاريج فقط. اما مهمة منح الثمار فقد جعلها الله على عاتق أشجار اخرى.
مر الوقت حتى ظن الجميع أنها شفيت من تلك العلة، وعندما أعلنت عن صداقتها ومساندتها لأشجار البرتقال قوبلت بالاستنكار والازدراء ولكنها بقيت على حالها ومع الوقت بدأت الشجيرات الصغيرة وبعض النباتات اليافعة في الإنصات إليها
كانت زهرة السوسن تتحدث عن ماضي الحقل وعن المستقبل المظلم الذي ينتظره لو استمر الامر على ما هو عليه الآن، موارد مهدرة. أشجار مريضة وأخرى على حافة الموت، بدا انتشار الآفات وتوقع لوصول آلاف من أسراب الجراد التي ستقضي حتما على كل شيء. كان خطابها مؤثرا للغاية وجد التفاعل من الجميع إلا أن أشجار النخيل كانت تنظر للأمر بشيء من الاستهزاء مدعمة رأيها بعدم جدوى كل هذه المساعي وإن كانت نبيلة.
لكن زهرة السوسن لم تلق لهم بالا وواصلت خطابها ولتنظيم الأمر. اقترحت ان يتم توزيع الاعمال على كل من يساند الفكرة من جميع النباتات من الجنسين ومن كافة الأعمار وأن تتولى هي برفقة فريق الاسعافات الاشراف على النباتات التي بدأت في الجفاف والاخرى التي غزتها الآفات مع التزام الفريق بأداء المهام الملقاة على عاتقه.
تم انقاذ عدد من الشجيرات من الموت المحقق، وبدأ العدد في الازدياد تدريجيا حتى أن الأصوات التي كانت تنادي بعدم جدوى ما يحدث تلاشت فجأة، بعد مرور أقل من شهر كان نصف نباتات الحقل قد انضمت فعليا للتنظيم الجديد وبدأت في العمل.
في بادئ الأمر لم يلحظ صاحب الحقل ما يحدث حتى نبهه الحارس صاحب الشفتين المتشققتين بعد خطاب زهرة السوسن والذي تبعه عدد من الخطابات ولكنه لم يلق بالا للأمر مؤكدا على أنها زوبعة لن تلبث أن تتلاشى . كان الحارس يحذره أنه إن لم يتعامل مع الأمر بجدية فسيفقد هيبته ولن تلبث الاشجار حتى تلقي بهم خارجا فارضة سطوتها. ودعاه يوما لاستراق السمع لحديث زهرة السوسن وهي تحث الفرقاء على مواصلة السعي والتعاون ولكنه قابل الامر بوابل من الضحك والاستهزاء فتعاظم غيظ الحارس الذي شعر بفقدان الحيلة.
كانت تؤرقه زهرة السوسن فهي لا تنتج خضرا ولا ثمارا وتصر على أن تصرف أشجار الليمون والبرتقال عن وظيفتهم الأساسية مدعية بأنها مسكونة بالمصلحة العامة. ما هذا الهراء؟ بل وصلت بها الجرأة لمناقشة اشجار النخيل العملاقة محرضة إياهم على ضرورة الانضمام للتنظيم، منبئة إياهم بأن البلاء في نهاية المطاف لن يستثنى أحدا، وإن تأخر على البعض. يا للعبث، كان يرى ان من واجبه ان يوقفها عند حدها.
فكر في طريقة تجعل زهرة السوسن تعدل عما تدعو إليه ، درس كل السبل المتاحة من إشاعة الفتنه وتحريض بقية الشجيرات عليها مشيعا أنها تلهث خلف الجاه والمكانة الاجتماعية. أو ربما هي تتآمر لمصلحة جهة ما تنوى الاستحواذ على الحقل.
وما كان منه الا أن استعان بصديقته الحرباء في حشو هذه الأفكار السامة في عقول الأشجار وخصوصا تلك التي يلقى حديثها قبولا لدى البقية. كانت الحرباء تسرد على بعض الأشجار ذكريات مصطنعة لحوادث مشابهه انتهت بدمار وخيبات أمل، وعلى البعض الآخر تقسم بأنها رأت زهرة السوسن في إحدى الأمسيات تحدث طائرا غريبا ما هو الا مبعوث من الشيطان كلف بنقل الأوامر إلى زهرة السوسن التي تخبئ خلف عبيرها سما زعافا لن يلبث طويلا حتى يقضي على كل نباتات الحقل، ولكن سردها لم يكن مقنعاً، بل على العكس فعندما أثيرت بعض الزوابع التي نادت بضرورة إزاحة زهرة السوسن وغيرها من الزهرات عن المشهد أتى رد الفعل بنتيجة عكسية، فالكل شهد في الفترات الاخيرة أنهن قادرات على العطاء ويجدن الإمساك بزمام الامور، فانضمت بقية الشجيرات والزهرات الصغيرة الى مبادرة السوسن والبرتقال والنخيل وغيرها من المبادرات التي برعت في إعادة جزء كبير من الحقل الى وضعه السابق، كما تم الاستعانة بأسراب النحل والفراش لنقل بذور أزهار جديدة من البساتين المجاورة.
كان صاحب الشفتين المتشققتين يستشيط غيظا وشعر بأنه يكاد أن يفقد السيطرة تماما، فقد فشلت كل الوسائل التي استخدمها لإزاحة زهرة السوسن التي يعدها المهدد الأول. فبدأ باستخدام وسائل ضغط أكبر حتى يستعيد السيطرة على الوضع. بدأ بإدخال الأغنام للتجول بين الشجيرات ودهس النباتات الصغيرة بحوافرها. كما لجأ لقطع المياه عن الجداول الرئيسية فجفت السنابل والشجيرات والبراعم الصغيرة.
كانت زهرة السوسن متشبثة بالأمل رغم كل شيء وتحاول شحذ همة الأشجار التي أصابها الإعياء، فقرر صاحب الشفتين المتشققتين التسلل في مساء حالك الظلمة واقتلع الزهرة الصغيرة دون أدنى شعور بالشفقة وألقى بها قرب الجدول تاركا اياها تلفظ أنفاسها الاخيرة.
عندما أتى للحقل صباحاً تغزوه نشوة نصره الغادر ليلا، وقف مشدوهاً وهو يرى أن شجيرات الحقل وأشجاره قد استحالت إلى مئات زهرات السوسن بعبيرهن المميز.