ليس في الأمر عجب، إذا اتّجه المجلس العسكري إلى تكوين حكومة كفاءات مستقلة، تتولى قيادة العمل التنفيذي، وينتهي اللغط حول تفاوُض مع الحرية والتغيير، أو أي جهات أخرى، ويتفرّغ الجميع للتحضير للانتخابات، وعدم الانتظار أكثر لأن كل ساعة تمضي ليست في مصلحة البلاد التي تعيش دون حكومة لأكثر من شهرين، فواضح أن هناك تعقيداً لا يُمكن حله في العلاقة بين المجلس العسكري والحرية والتغيير، ولا يمكن تشبيك الرابط بينهما كشركاء، وأصبح المجلس العسكري أكثر صراحةً في ذلك، وما قاله نائب رئيس المجلس العسكري، الفريق أول محمد حمدان دقلو في قرّي بأن التفاوُض والحكومة ستكون لكل الشعب السوداني، وليس حكراً على فصيل واحد يدّعِي تمثيل الشعب السوداني .
لا يُمكن للمجلس العسكري أن يُناظِر الحرية والتغيير إلى الأبد، فإذا كانت مصلحة الجميع هي ترسيخ الديمقراطية وتحقيق تطلّعات الشعب السوداني والحفاظ على مكتسبات التغيير الذي تم، فالواجب هو تجنيب الحكومة التي تُدير الفترة الانتقالية أية استقطابات حزبية ومُماحكات سياسية، وإذا حدث ذلك ستكون الفترة الانتقالية مليئة بالصراعات والمؤامرات والفتن والاحتراب السياسي، وسيقود ذلك إلى إجهاض الديمقراطية نفسها، وبدء الدائرة الجهنمية في الدوران، وتلد الأزمة السودانية ذاتها، ويحدُث انقلاب عسكري جديد، عندما تعود الأحزاب إلى ضلالها القديم .
لا خيار سوى تنحية أية ظلال حزبية في حكومة الفترة الانتقالية، على الجميع أن يجتهدوا في بناء الأحزاب وإعداد برامجها ومُخاطبة الشعب السوداني استعداداً للانتخابات، في ذات الوقت تعمل حكومة الفترة الانتقالية المستقلة تماماً عن الأحزاب على تحضيرات الانتخابات، وإجازة قانونها وقانون الأحزاب السياسية، والتوافُق على القوانين، وإكمال كل ما من شأنه جعل الانتخابات القادمة حُرّة ونزيهة وفق المعايير الدولية، والعمل على إتاحة الفرصة لكل الجهات الداخلية والخارجية التي تُريد مراقبة العملية الانتخابية .
لا يُمكن في ظل حالة التراشُق الكلامي والفوضى العارمة، والشد والجذب التي نراها الآن، وتسيُّد لغة الكراهية والتخوين والاتهامات الجزافية الساحة، أن تستمر العملية الانتقالية بسلاسة، فعلى المجلس العسكري أن يحسم هذه الأمور ما دامت السلطة بيده، عليه جمع كل القوى السياسية الموجودة في الساحة ويطرح عليها ميثاقاً سياسياً تلتزم به كل الاحزاب، ثم يُعلن حكومة مستقلة مُتّفَقاً عليها، ينتهي أجلها بانتهاء الفترة الانتقالية .
هناك مسؤولية مُلقاة على عاتق كل العقلاء من القيادات السياسية والاجتماعية السودانية، بأن يقوموا بدورهم في تهدئة الساحة السياسية التي تعجّ بكل قيح وتجنٍّ وغضب وتجاوُز، إذا غاب هذا الدور من العقلاء سيدخل السودان في نفق مظلم، خاصة أن هناك استسهالاً للاستنصار بالقوى الدولية ضد المجلس العسكري، وهو ما لا يجوز وطنياً وأخلاقياً. ويبدو أن التيارات اليسارية التي لا تعرف الانتماء لترابٍ أو وطنٍ، تُحاول بذر بذور الشقاق، وتأليب المجتمع الدولي على البلاد والتحريض عليها.
لذا، لابد من الانتقال السريع من الراهن السياسي بكل ما فيه من تشابُكات وصراع لا قيمة له، إلى ساحة جديدة تتغيّر فيها صورة البلاد وقواعد اللعب غير النظيف الذي نعيشه الآن .