2 ابريل 2022م
توقفت في الحلقة الماضية مع عمنا ود قوم البل الكباشي الغلياني وحوار الذكريات والماضي البعيد. فالرجل جلس يتوسّط الحضور وهو يجول بنظره هُنا وهُناك وكأنه يقرأ وجوه القادمين أو يبحث مثلي عن سر هذا التدافع والحب الكبير والعناق الدافئ بين شيخ العرب وأهله الذين فرّقتهم المسافات وباعدت بينهم السنين.
وبابتسامة تحمل الكثير من المعاني، قال لي “الناظر دا أنا جده ولي زيارات متكررة في الماضي إلى أم سنطة ولقاءات مع جده الناظر حسن عليه رحمة الله، بالدكة”.
وأخبرني بأنه كان يقطع كل هذه المسافة على ظهر جمله مُروراً بجبل العين ووادي الملك بكل مناطقه وموارده حتى حمرة الشيخ وأم سنطة. والمعروف عن الكباشي بطبعه يهوى قطع المسافات على ظهر جمله وهو يتسلى بالدوبيت والدوباي كقول أحدهم:
مما توخِّر أُم سُرَّة وتدور الشَّرْدي
وأُم إضنين بتظهر ليك هناك مِنْعَرْضي
دوماتَك بِكُبّن كيف زِيوق الفَرْدِي
تخلّي الجالسي مزيقة محمد وردي..
هكذا يقطعون المسافات ويجولون الصحاري والوديان على ظهور الجمال وكل ما طالت المسافة يزيد قوة ويضاعف سرعته.
فالبدوي كعادته لا يحفظ التاريخ بشهوره وأعوامه وأيامه ولكنه يؤرخ بالأحداث العظيمة التي عايشها. لذلك سألت ود قوم البل هل حضرت الشيخ على ود التوم؟! فكانت إجابته (عندما توفي الشيخ علي أني بهايت جمال القيد). ما يعني أنه في المساء يرسله والده للبحث عن الجمال التي تتواجد بالقرب من البيوت ويحضرها لكي يتم عقالها لأنها وسيلة الحركة التي يجب أن تتواجد ليلاً أمام المنزل، لذلك قدرنا عمره بالتقريب ما بين سبع إلى عشر سنوات حينها. والسير علي توفي في العام 1938م. فتقريباً هو يتحدث عن فترة نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات، وهو المولود بضواحي منطقة الدبة الحالية حينها – حسب روايته – كانت عبارة عن بيتين صغيرين يبيع صاحباهما البصل الذي يأتي من المشاريع النيلية، وكانت أسرته تترحّل جنوباً وغرباً في فصلي الخريف والشتاء وتعود لضفة النيل صيفاً. فالرجل بذاكرته المتقدة يحفظ موارد إبله وفلاتها ومسادرها، بل أخبرني بأن مهدة الخليوة كانت الأشهر على النيل وهي تقع بمدينة الدبة الحالية.
وبنظرته الحادّة وبساطته وملامح وجهه البدوي ومفردته التي مازالت تحافظ على نكهتها وهي تقاوم عوامل التعرية وتغول المدينة أحسست أنه مازال يحن إلى تلك الأيام الخوالي وكأنّه لا يؤمن بالشيخوخة التي داهمته، يُحاول أن يتهرّب من إعوجاج الظهر وبطء الحركة، ولكن ضعف السمع يخذله ويفرض عليه واقعية تقدم العمر.
وجدته يحفظ الكثير من أشعار إدريس الغلياني ويرددها بلهجته الخاصة كثيرة الإمالة مع إدغام بعض الأحرف. وأحسست بأن حب الإبل وسرحتها وأيام الشباب معها وتقضي صيفها بين مهدة الخليوة وكرمكول، وتارة في بئر الشيخ صالح وعد الشيخ وفوجا وأم بليلة، وكلها آبار تقع جنوب وغرب الدبة كانت من الموارد المهمة للبدو الكبابيش، هذه الصور والمشاهد ظلّت تحتفظ بها ذاكرته رغم كل هذه المدة وحنينه إليها لن ينقطع وكأنه يتمثل قول ذاك البدوي:
(بعد ما كنت دليل الردت الهدجيبي** بقيت بتكبس بالككر من الشروق للغيبي
أصلها الدنيا يا دخري البخورهن شيبي** مرة فتى ومرة عروس ومرة عزيبي). أو هكذا تتجول الدنيا وتتقلب.
في وسط هذا السرد التاريخي المتسلسل بأحداثه ومعالمه، سألته ماذا عن كرمكول؟! وبعد تنهيدةٍ واجترار للذكريات وكأنّه أراد أن يعبِّر عن حُبِّه للمكان وقدسيته. يجيبني كانت مهدة إبل تشرب وتسدر منها، والمهدة هي المورد أو المكان السَّهل الذي يسمح للإبل ورود الماء منه فالرُّعاة دائماً يختارون المكان السَّهل المكشوف حتى تكون حركته منسابة وبسيطة. لا شيءٌ يعكر صفوها حينها لا ضجيج ولا أصوات غير حنان الإبل أو هدير الجمل الفحل أو قمرية تعلو أحد الأغصان وتتمايل مع النّسيمات وكأنّها تُداعب أمواج البحر وتُردِّد تغريدها الذي ينساب حلاوةً وطراوةً وهي تشكو مُرّ الفراق وقسوته كما قال أستاذنا الدلال مخاطباً إحدى القماري:
(يا قمرية فوق فرعاً تلولي الريح ** وزي ما صحتي من ألم الفراق بنصيح
ذكرتيني لمثلاً بقولوه صحيح ** ومن المستحيل مجروح يداوي جريح).
ها هي الشيخوخة تجرح عمنا ود قوم البل وهي تفرق بينه وبين إبله وحياته التي أحبّها منذ طفولته الأولى.
وعلى امتداد بصر الناظر، تكتسي أرض كرمكول لونها السُّندسي الجميل وعلى بُعد خطواتٍ تناثرت بيوت صغيرة طابعها البساطة والإبداع. هنا كانت صرخة الطيب صالح الأولى ومن هنا تشرّب كل ما هو جميل. والقناعة التي أؤمن بها بأنّ الطيب شرب الغباشة والقارص وارتشف أكواباً من الناعم في هذه المهدة وهي تضج بالواردين وأصوات الدوباي والهداي وأحدهم يقف بين إبله ويطلب منها الشراب أكثر وأكثر وهو يصيح (حاتي ضوقي عسل مو مي حاتي ضوقي).
هذا الإبداع والجمال وعلاقة الزمن المُوشّح بالبساطة والبراءة كانت سبباً في أن يكون للبادية حضورٌ طاغٍ في أدب الطيب صالح، فإشارات الدوبيت إيقاع البداوة يظهر في رائعته مُوسم الهجرة إلى الشمال وفي ضو البيت وعرس الزين وغيرها. حتى مقاله المشهور من أين أتى هُؤلاء والذي يحمل طابعاً سياسياً إلّا لأنّ سيرة البادية كانت حاضرةً من خلال سؤاله الجوهري عن حال النساء في حمرة الوز وسودري وغيرها من أرض الكبابيش، فهذه العلاقة المقدسة نشأت معه منذ طفولته الأولى، ومن الصُّدف أنّ أهالي الدبة اختاروا مزرعة جدو الهلال الرائعة لإقامة الناظر حسن وضيوفه وهي على مقربة من كرمكول الزخم والتاريخ والتسامُح حتى أنني سألت عمنا ود قوم البل في حواري معه هل: لكم علاقة أو قرابة بكرمكول أو بقية القُرى المُجاورة للدبة؟! ولكنه أفادني وبإجابةٍ قاطعةٍ (يا ولدي والله نحن هنا كلنا أهل).
مازلنا مع الدبة واستقبالها وتدافع أهلها وأعيانها ومشاركة نُظّار قبائلها المُختلفة في استقبال الناظر حسن التوم حسن.
ونواصل،،،