قادته إلى دمج نصوص من شعراء مختلفين .. مصطفى سيد أحمد .. عبقرية القص واللصق!!
مشروع كوني:
مساء الأربعاء 17 يناير 1996م لم يكن يوماً عادياً في تاريخ الغناء والموسيقى فحسب، بل في تاريخ السودان ككل.. لأن مصطفى سيد أحمد لم يكن مجرد فنان انحصرت فكرته في الموسيقى.. فهو كان مشروعاً حياتياً وإنسانياً متكاملاً.. كان الرجل أقرب لفكرة الظاهرة التي لا تتكرّر إلا كل مائة عام.. ودعونا نقول بأنه لن يتكرر مطلقاً وان حواء الإبداع والفنون عقم رحمها بعد رحيله الفاجع.. انه شخصية خاصة احتشدت بالتفاصيل المثيرة .. تفاصيل مازالت غامضة وعصيّة على الإدراك.. ورغم أننا نجتر في كل عام ذكراه ولكن أغوار نفسه وتجربته ما زالت حبلى بالكثير الذي نعرفه أو حتى نتفهّمه.. إنها مُحاولات لسبر أغواره السّحيقة.. وسيظل مصطفى عصياً على النسيان متقداً للأبد في ذاكرتنا.. لذلك سنظل في كل عام ننبش هذه الذكرى الحبيبة.
حكايات لا تنتهي:
مصطفى سيد أحمد.. حكايات لا تنتهي .. تفاصيل محتشدة تحتاج للتأمُّل والتفكُّر .. لأنه لم يكن فناناً عادياً بل كان مفكراً قبل أن يكون فناناً يداعب الأوتار.. مصطفى سيد أحمد حينما نتأمل غنائيته نجدها ذات تفكير عميق تؤشر على عبقريته كفنان انتهج طريقاً مغايراً لا يشبهه فيه أحد .. لذلك تجدنا نتوقف كثيراً في مشاريعه الفكرية وبالطبع لن نقول الغنائية لأننا لحظتها سنظلمه حينما نضعه في مرتبة واحدة مع مَن نطلق عليهم مطربين أو فنانين لأنه أشمل وأجمل ولا نبالغ إذا قلنا الأكمل والكمال لله وحده ولكن مصطفى حالة غير.
التحاقه بمعهد الموسيقى:
التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وأكمل خمس سنوات بقسم الموسيقى “قسم الصوت”، إلاّ أنه لم ينتظر حتى ينال شهادته الأكاديمية. متزوج وله طفلان “سامر وسيد أحمد”، له من الأخوات سبع وشقيق توفي عام 1970 م “المقبول ” وهو شاعر غنى له مصطفى. عانى من المرض كثيراً فقد لازمه الفشل الكلوي مدة طويلة “15 عاماً” أجرى خلالها عملية زراعة كلى بروسيا أواخر الثمانينات، إلاّ أنه تعرض لانتكاسة جديدة بداية عام 1993 بالقاهرة وانتقل منها للعلاج بالدوحة حيث ظل هناك يباشر عملية الغسيل الكلوي ثلاث مرات في الأسبوع إلى أن توفاه الله مساء الأربعاء 17 يناير 1996م.
نحو جغرافيا أخرى:
غنائية مصطفى سيد أحمد لم تلامس الوجدان السوداني وحده، بل تعدت المحلية وتحرّكت نحو جغرافيا أخرى.. لأنه أراد لها أن تكون لكل الناس بلا تمايز في العرق أو السحنة أو الدين.. أغنياته تصلح لكل زمان ومكان ولا تعترف بحدود الجغرافيا أو التاريخ لأنّها ذات كيمياء خالصة له خاصية التفاعُل مع كل وجدان إنساني سليم.. تجربة مصطفى سيد أحمد توقف عندها الكثيرون الذين ليس مكتوباً في جوازات سفرهم أنّ عيونهم عسلية أو ممنوعون من السفر لإسرائيل.
ليه غبتي يا القمرا:
من الأغنيات التي تؤشر على عبقرية مصطفى سيد أحمد أغنية (ليه غبتي يا القمرا) وهذه الأغنية كتبت لمسرحية “أربعة رجال وحبل” من تأليف ذو الفقار حسن عدلان وإخراج قاسم أبو زيد .. وهي واحدة من اغاني المسرحية وكلها من ألحان الراحل المقيم مصطفى سيد أحمد مقدمة الأغنية أو الجزء الأول منها إلى المقطع “نشرب بواقي السيل” كتبه الأستاذ قاسم أبو زيد ويقول المطلع:
الحال وقف.. وقفت معاهو كمان بلود..
نار الفرح ما ولعت.. ساق الحراز كضب
شرب موية المطر.. دلوكة العز والعزاز
ما خنقت.. ليه غبت يا القمرا
نركب جياد الليل .. انشرّ بينا صباح
سفر العتامير .. ليل .. نرجاكَ في المطرة
أرجع تعال .. يا شليل .. دِرع الأميرة .. سـِرِق
سووهو حِدوة خيل.. بحر العطاشة .. نِشِف
نشرب بواقي السيل
استلاف:
استكمال القصيدة:
وبجرأة الفنان الواثق من أدواته التعبيرية يستلف مصطفى من “محمد الحسن حمّيد” بعض السطور والمفردات الشعرية ويمارس القص واللصق ليكمل القصيدة من أشعار “حمّيد” بالمقاطع التالية:
صُدْ لي ملامحك يا حراز
ريح العوارِض .. غرّبتْ
فرتِق ضفايرك .. في الرذاذ
جية العصافير .. قرّبتْ
عبقرية مصطفى:
عبقرية مصطفى قادته الى دمج نصوص من شعراء مختلفين في التناول والاسلوب دون ان يختل المعنى العام للنص او تحس انت كمستمع بأن هذا النص أو الأغنية لشاعرين، وانا اعتقد جازماً والى اللحظة أنه لم يكن لأحد أن يشك ان هذه الاغنية لنصين مختلفين لشاعرين هما حمّيد وقاسم والذي قام بالدمج هو مصطفى لوحده وليس الشعراء كما سنورد بعد قليل.
نموذج طوريتك:
وهناك نموذج آخر وان كان مختلفاً قليلاً كما في أغنية “طوريتك”، حيث بدأ كتابتها مصطفى بالمقطع ثم واصل فيها محمد المهدي عبد الوهاب، وأكمل القصيدة الشاعر صلاح حاج سعيد دون أن نحس باختلاف اللون في القصيدة مع اختلاف الشعراء وطريقة كل واحد وأسلوبه في كتابة الشعر وهي فكرة لا أعتقد انها تكرّرت بالقدر الكبير لأي فنان آخر أن يكتب أغنية ثلاثة شعراء.