أغنية ظهرت على استحياء ثم صارت أحد كنوز الغناء السوداني: كنوز محبة .. تمظهر قدرات بشير عباس السردية في التلحين!!
تحليل موسيقي
كتب: أنس العاقب
مقدمة لابد منها:
كنوز محبة أغنية ظهرت على استحياء ثم صارت احد كنوز الغناء السوداني.. سنة 1967 كانوا كلهم في عنفوان الشباب .. وزيدان لم يبلغ الثلاثين بعد . الشاعر بشير عبد الماجد يتدفق شعره رومانسية طاغية وسلسالاً من أحاسيس جارفة . (أحب أم لم يحب) ظلت اشعاره تفيض عواطف واشجانا ملؤها دفق من الوله والعشق والأمل والرجاء… وشواطيء بعيدة عن فردوسه المزدهر بالحب ولا شيء غيره .. وأظن بشير عبد الماجد كتب كلمات كنوز محبة وهو في حالة عاطفية غارقة في الرقة والعتاب والرجاء والهمس جهراً في أذن حبيب خلى يتوسد بهاءه ودلاله لا يعبأ بمحب ذاب فيه حباً وغناه قرباً واندغام يخاطبه في رقة وعذوبة.
(لما تشتاق للمشاعر تملا دنياك بي عبيرا):
نعم هؤلاء الأحباب مهما بعدوا وتمادوا في الهجر لكنهم حتماً سيستفيقون في لحظة صدق عاطفي يتوقون للتوشح بمشاعر المحب الواله في توقه لإسعادهم بالكلمة المبهرة الوسنة فينبثق عطر الاحساس بالرضاء والتوق إلى عالم مفتون بالحب يطوقه وحده بمشاعر يستحيل تجاهلها بل هي لحظات لمجد منتظر .. وبشير عباس الملحن الشاب المنطلق بسرعة إلى عالم النجومية ليحتل مكانه بين العظماء الذين توجوا حدائق الغناء عزفاً بالأوتار ورسماً بالنغمات يتقدمهم شيخنا الكبير برعي محمد دفع الله رحمه الله.
وبشيرعباس اختار أن يكون هو العازف على آلة العود التي أحبته وارتاحت على صدره فأولته اوتارها يداعبها عزفا فيرتيوزيا بارعاً ماهراً واستنطقها ألحاناً متدفقة بأفكار بدت في أول ميلاها تحذو حذو من سبقوه في شكل القالب اللحني وفي صنع الجُمل الموسيقية واللحنية.. وأما أنا عندما استمعت أول مرة لأغنية (كنوز محبة) في مطلع الثمانينات بصوت زيدان إبراهيم ظننت أنها خرجت لتوها من مطبخ بشير عباس باعتبار التجربة الثرة التي امتدت لأكثر من عقدين لحن فيها عدداً غير قليل من الأغنيات لمطربين ومطربات وثنائيات ثم أن أغنية كنوز محبة جادت في شكلها ومُحتواها تحمل سمات وخصوصية لم نعهدها من قبل في شكل ومحتوى الأغنية السودانية المتداولة بين الملحنين الموسيقيين والمطربين . فماذا فعل الموسيقار الشاب بشير عباس بنص جديد شكلاً وموضوعاً بعيداً عن الشعر الغنائي الذي كان سائداً وأظن ـ والله أعلم ـ أن الشاعر الشاب وقتذاك كتب هذه القصيدة الفريدة وبإحساسه الشفيف الذي يفيض رومانسية كتبها ولم يكتب قبلها بمثل ما كتب ولا حتى من بعدها فهو شاعر مغرم بالشعر العامودي وبأخيلة وأحاسيس متجددة فكراً وخيالاً ورؤى جعلت منه واحداً من أشهر شعراء مواعين الشعر في السوشيال ميديا وفاز فيها بجوائز كثيرة .
والتقى الشابان:
إذن التقى الشابان بشير وبشير وتلاقت الأحاسيس بالمشاعر فلم يشأ بشير عباس إلا أن يقدم على اسلوب في التلحين ابتعد فيه عن التقليدية وعندما قرأ وتمعّن البيت الثاني (لما تشتاق للعواطف تنسجم تلبس حريره) .. ويأتي التساؤل ثم ماذا ؟ (أبقى اسأل عن عن قلوبنا ) … لماذا ؟(تلقى فيها كنوز محبة) ..وكنت تجهلها (تلقى فيها بحور حنان ).. لم تقترب من شواطئها الدافئة .. ثم ماذا (تلقى فيها الشوق يغرد) .. وكان نهناها بالدموع (تلقى فيها الريدة فاردة جناحا تشتاق للربيع ).. وإنت الربيع ربيع حياتي وألقها ونضارها وسعادتها.
المقدمة أشبه بغزل موسيقي:
كان لابد أن يبادر بشير عباس وينحو بالقالب الغنائي إلى شكل جديد أسميه الأغنية السردية Narrative Song فقد ابتدر بشير عباس الأغنية بجملة موسيقية بسيطة جداً وجميلة جدا مكونة من عبارتين قصيرتين متشابهتين كسى العبارة الثانية بنغمة سادسة أعطت الحس الجمالي شيئا من الدهشة المستحبة ثم أن هذه النغمة السادسة في أغنية كنوز محبة صارت من بعد جزءاً من صياغاته اللحنية سنلحظها مثلاً في مقدمة وفي غناء أغنية (رياح الشوق ) وفي أغنية (رجعنالك) وفي أغنية (عشة صغيرة) وغيرها.. وأعتقد والله أعلم أن هذه الجملة الجميلة البسيطة أراد بها بشير عباس أن تبدأ كلمات العتاب الآمل الذي سيبتدره زيدان لتكون المقدمة أشبه بغزل موسيقي يستدعي كلمات الشاعر ثم لتصبح هذه المقدمة هي الرابط بين المقطع الثاني المستعطف الوجل الخجول الاسيان
(لما تقسو عليك ليالي الوحدة والليل يبقى ليل)
(والنجوم تلمع بعيد)
(تسأل عن السهران وحيد)
(برضو اسأل عن قلوبنا)
وصف وردي لصوت زيدان:
(وصف وردي صوت زيدان بأنه من أجمل الأصوات وأكثرها تطريباً وإحساساً) ذلك لأن صوت زيدان ربما كان يمثل طفولة البداية في تسجيلاته الأولى في مطلع الستينات تحس بأن صوته فعلاً جميل ولكن ينقصه شيء ما وهذا الشيء هو كاريزما الأداء فعندما تستمع لزيدان إبراهيم في أغنية كنوز محبة ينتابك إحساس بأنه شاعر وملحن الأغنية فهو يلبسها دفقاً خاصاً من كاريزما أدائه وإحساسه الذي لا يبارى مهما قلده المقلدون .. ولكي يقترب من قمة التعبير الدرامي والعاطفي تمكن بشير عباس من خيوط السرد في الجزء الأخير .. وأخذ معه القصيدة وزيدان إلى لحن يتدفق حباً واعترافاً وثقة وبهاءً.. فبرغم العتاب الوسن والشوق العارم والنداءات الأثيلة المتوشحة بالبراءة والاعتزاز بالمحبوب لكن الثلاثي بشير عبد الماجد وبشير عباس وزيدان إبراهيم اندغموا معاً وزيدان إبراهيم يتجلى ليصدح…
(إنت ما برضك حبيبنا) … أكيد.. (والحنان الفي قلوبنا).. مافي شك .. (اصلو نابع من عيونا)… وأنت شايف .. ثم تأتي القمة الـ Climax يقسم فيه صوت زيدان بكل صدق (والمحبة الفيها لوما إنت) وزيدان بصوته يرتفع معترفاً ومفتخراً وفي (ما كانت محبة ) وصل فيها صوته إلى آخر مدى صعوداً وسطوعاً ثم يقرر أن يهدأ ويعترف مفصلاً… (وكل أشواقنا ومشاعرنا وأماسينا النبيلة)… هل نسيتها وكيف تنساها أيها الجميل الحبيب القاسي المتناسي (إنت ما أهديتا لينا) … وأسعدتنا (كيف تضيع أحلى ما أهديت يا غالي) … كيف… كيف… وهكذا يتراجع زيدان بصوته إلى أن يصل درجة الهمس والتلاشي … فهل يسمع المحبوب … نعم سمع المحبوب .. فهم يسمعون ولكنهم سادرون في عذابنا وما أحلاه من عذاب.
الأغاني السردية:
كنت أعتقد أن أغنية إلى مسافرة للشاعر عثمان خالد والتي لحّنها وغنّاها حمد الريح رحمهما الله هي أول أغنية سردية Narrative Song ولكنها تاريخياً ظهرت بعد أغنية كنوز محبة، إذ جاءت حوالي 1968 والفرق بين ظهورهما أن حمد الريح كان قد أسس وأرسى مدرسته منذ ظهوره الأول بأغنية (إنت كلك زينة) على عكس زيدان إبراهيم الذي ظل يتقلب بغنائه بين الملحنين إلى أن استقر عند شطئان الملحن الفذ عمر الشاعر وعدد من ألحان زيدان نفسه الناجحة، فانطلق لا يألو جهداً سوى الغناء. وفي الغناء هناك قاعدة تقول إن الشهرة الكاسحة تعيد الأغنيات القديمة المنسية للوجود والواجهة لأن جمهور المستمعين والمعجبين يتلقفها بشغف وحب وهذا ما حدث لأغنية كنوز محبة التي استقرت الآن من بين أجمل ما غنى زيدان إبراهيم وابدع ما لحن بشير عباس وتتصدر أجمل وأفضل أغنيات القرن الماضي.
بشير عباس الملحن المجدد:
رحم الله بشير عباس الموسيقار الكبير الملحن المجدد العازف الباهر ورحم الله زيدان ابراهيم المطرب المغني الملحن الفنان ومتع أستاذنا الكبير بشير عبد الماجد بشير بالصحة والعافية وطول العمر.