منى أبو زيد تكتب : على مثله تبكي البواكي..!
26 مارس 2022م
“يا موت، اجلس على الكرسي، كن أسمى من الحشرات، كن قوياً ناصعاً.. يا موت، اخلع عنك أقنعة الثعالب.. كن فروسياً، بهياً، كامل الضربات”.. محمود درويش..!
فجعنا يوم أمس بخبر رحيل د. أيمن علي الفضل، المدير التنفيذي للصندوق القومي للإمدادات الطبية، وزميل وصديق شقيقي د. مصعب، وابن وصديق أسرتنا منذ ثلاثة وعشرين عاماً، إثر علة مفاجئة. تعرفتُ على أيمن – رحمه الله – في العام 1999م وهو تاريخ التحاق شقيقي مصعب بكلية الصيدلة بجامعة أم درمان الإسلامية، هو مجموعة من خيرة شباب هذا الوطن، كانوا زملاء جمعتهم مقاعد الدراسة، ثم مكاتب العمل بالصندوق القومي للإمدادات الطبية، والاستقامة على صراط الأخلاق والمبادئ المهنية، ولم تُفرِّقهم دروب الحياة وتصاريف ظروفها باغتراب بعضهم وبقاء البعض الآخر داخل السودان..!
ألا رحم الله د. أيمن وأسكنه فسيح جناته، وخالص العزاء لأسرته الكبيرة والصغيرة ولأصدقائه وزملائه ومُحبيه وعارفي فضله ودماثة خُلُقه وكريم خصاله التي لم تكن تخفى على أحد. أعزيهم وأعزي نفسي، وقد أعادت إلينا فاجعة موته وأسبابها فاجعة موت شقيقنا د. مجتبى – رحمه الله – التي كانت موجعةً ومفاجئة، والتي ظلّت أحزانها باقيةً فينا منذ أكثر من ثماني سنوات..!
الحقيقة التي لا مفر منها هي أنّ الموت حقٌ، وأنّ الإيمان بقدريته والتسليم به كقضاء مع عظم وقوعه على النفس من المُتناقضات الجليلة التي تفوح بها نفوس المؤمنين، حين يمتزج التسليم بقضاء الله مع مكابدة الفقد، ولا يقول العبد المؤمن إلا ما يرضي الله. يقول أبو العتاهية “الدهر ذو دولٍ والموت ذو عللٍ.. والمرء ذو أملٍ والناس أشباه.. وكل ذي أجلٍ يوماً سيبلغه.. وكل ذي عملٍ يوماً سيلقاه”..!
والموت عند العارفين حياة، وهو – من ابن حنبل، إلى ابن تيمية، إلى الحلاج، إلى ابن عربي، إلى النورسي – يقين وبداية، وتبديل مكان، وتحويل وجود، وهو بعد ذلك صيرورة. وكل كائنٍ من حبة القمح إلى النملة إلى الملوك والسلاطين صائرٌ إليه، فلله ما أعطى ولله ما أخذ..!
ولكن على الرغم من كل اليقين الإنساني المتوارث بشأنه يظل الموت أزمة سيكولوجية لا بد أن تصهر روح الحي بعد رحيل الميت. فالناس لا يبكون الموت كحدث بل يبكون الفراق – أعظم تداعياته وأشدها إيلاماً – يبكون إدراكهم لفكرة السفر والرحيل الأبدي، ثم يعيشون مع الذكرى، وبعد رحيلهم يبكي فقدهم آخرون. هكذا حال الموت، صنو الحياة ووجهها الآخر..!
فعند خارطة الألم الذي يكابده الحي بفراق الميت يلتقي بنو الإنسان أجمعين، وعند الجزع من فكرة استحالة اللقاء وتعذر الرؤية تلتقي الفلسفات والأفكار والنصوص. وعن هذا يقول لوركا – شاعر الموت – في رثاء فقيده “لن أراه، تركت ذاكرتي، اشتعلتْ، أحرقت الياسمين، من دقيقة ضعف واحدة”. وعن هذا قال ويقول معظم الباكين في مواجهة اللائمين “نعلم أنّ الموت حق، إنّما نبكي الفراق”..!
ألا رحم الله د. أيمن وجعل الفردوس الأعلى من الجنة مثواه، ورحم موتانا جميعاً وأسكنهم فسيح جناته. إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن وإنّا لفراق أحبائنا لمحزونون. كم رحل عن دنيانا أحباءٌ مُميّزون، أناسٌ مُميّزون يحبون الله ورسوله، مُواطنون مُميّزون يحبون الوطن والناس، وعباد صالحون اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، حبّبهم في الخير وحبّب الخير إليهم. اللهم أغفر لموتانا وأرحمهم وجميع موتى المسلمين، اللهم أحينا وأمتنا مسلمين، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، ونسي اسمنا ودرَس رَسمُنا..!