*دونما ضجيج، ومثلما كان يعيش، رحل الرجل قبل نحو ثلاثة أعوام من الآن مخلفاً في جدار القلب شرخاً آخر من الأحزان التي تأبى عنا حولا..
* رحل بهدوء الأستاذ جبريل عبد الله (خازن) تاريخ الفاشر، والذي ما ذُكر إلا وذُكرت مكتبته التي تعد الأضخم في الفاشر إن لم تكن في السودان كله.
* رحل جبريل في غفلة منا في الأسبوع الماضي، وهو السياسي والمؤرخ الذي أنفق جل حياته في عشقه للكتاب والمعارف، فالرجل مثقف من طراز فريد.
*ومما لا يعرفه عامة الناس أن عدد كتب الراحل الأستاذ جبريل عبد الله في مكتبته يبلغ (30,000) كتاب خلاف الدوريات والمجلات والصحف والمطبوعات والوثائق والخرائط..
* أول لقائي به كان على سطح (قلول) حيث الطبيعة الساحرة بجبل مرة قبل نحو ثمانية عشر عاماً، أي في العام 2001م كنت حينها في تغطية صحافية بدعوة من الأمير صلاح الدين الفضل وزير التربية والتعليم حينها بجنوب دارفور، وكان الأستاذ جبريل وزيراً للتعليم بشمال دارفور، ومنذ لقائي الأول به طبع الرجل بدواخلي صورة للمثقف والمؤرخ والعالم.
*فالرجل من القلائل الذين إذا حادثتهم لا تمل من حديثهم أبداً فهو موسوعي المعارف، كثير الاطلاع في المجالات المتعددة، خلال لقاءاتي المتقطعة عبر الخمسة عشر عاماً التي سبقت وفاته، تعرفت عبره وبشكل علمي وعملي على أدق تفاصيل جغرافيا وتاريخ وتراث وإنسان دارفور وأنماط سبل كسب العيش فيها.
*مما لا يعرفه كثير أناس عن الراحل جبريل، أن الرجل كان مولعاً بكرة القدم، لكنه كان يشجع دونما تعصب أو انتقاص من خصومه، وأذكر أن الرجل كما أفادني الزميل الأستاذ معاوية أبو قرون قدم فيما مضى ورقة بالفاشر عن تاريخ الرياضة بدارفور عقب عليها
الدكتور السفير علي قاقرين، وقد وجدت الورقة احتفاءً يليق بها وبمعدها لما حملته من لبنات لتطوير الرياضة بدارفور لأنها أتت من رجل ضليع.
* قبل أعوام خلت دشنت له منظمة أروقة للثقافة والعلوم كتاب (تاريخ مدينة الفاشر)، الذي نال وقتها اهتماماً غير مسبوق حتى من القراء من غير ذوي العلاقة بالفاشر ودارفور، لما حواه من معلومات وحقائق قلما تُوجَد في مراجع ذات صلة.
*هذا الكتاب الذي أضحى الآن مرجعاً لتاريخ فاشر زكريا كتبه الراحل ضمن الكتاب عن تاريخ الحركة الإسلامية بمدينة الفاشر.
* في مجال العمل العام، تولى الراحل العديد من المناصب الدستورية بولاية شمال دارفور، ولعلّ أهمها رئاسته للمجلس التشريعي لولاية شمال دارفور، ثم توليه حقيبة وزارة التربية والتعليم ونائب الوالي، ثم مستشاراً للوالي، مما يشهد له به الجميع أن الرجل دخل المجال السياسي من باب إرساء القيم الفاضلة وتوظيفها لخدمة الوطن والمواطن..
*في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاته، بحثت كثيراً عن الراحل بجانب الأستاذ معاوية أبو قرون الذي يشاطرني المودة وإدمان المؤانسة للراحل جبريل، علمت من بعض مقربيه أنه يسكن الخرطوم جنوب في حي السلمة، ونويت زيارته بعد عودتي من مسقط رأسي مدينة دنقلا قبل أيام من وفاته، إلا أن الموت كان أسرع إلى ذلك.
*رحل الأستاذ جبريل عبد الله الذي أعطى السودان ودارفور والحركة الإسلامية ولم يستبق شيئاً، مات (مهمشاً)، ولم يسأل عنه أحد في مرضه الأخير، حسبنا أنفسنا ونحن من عارفي فضله وحدنا المقصرون في ذلك لكننا وجدنا أن من أعطاهم ثمرات شبابه وعلمه وعمله بخلوا عليه حتى بالمعاودة، بل امتد هذا البخل حتى (المشي) في جنازته !!!
*رحمك الله أيها الرجل الشفيف العفيف الذي حسبك كثير من الجهلاء غنياً من التعفف، فما ضرك وأنت أغنى بكثير بجميل صفحات مشرقات لم يقرأها كثير من الناس بعد.