16مارس2022م
نعم، أفلحت الحركة الشعبية الجبهة الثورية في التوقيع على اتفاق سلام جوبا في الثالث من أكتوبر 2020م، وبمُوجبه نال إقليم النيل الأزرق بالتحديد العديد من المكاسب، لعل أبرزها منحه الحكم الذاتي، وليس آخرها كسبه لنسبة (40%) من موارد الإقليم الذاتية، بيد أن كل ما تم كسبه من اتفاق سلام جوبا لا يعدو كونه ترك الكثير من (وميض النار تحت الرماد)، وذلك ما تمثَّل في انشقاق جزء مهم من قوات الجيش الشعبي الجناح العسكري للحركة الشعبية، عن الفريق مالك عقار وانضمامهم للجناح المناوئ له بقيادة عبد العزيز الحلو، والذي يضم عددا كبيرا من أبناء النيل الأزرق، الأمر الذي بدوره يُمثِّل عقبة كأداء في سبيل بلوغ إنفاذ اتفاق السلام مداه المطلوب في كل ربوع الإقليم، الأمر الذي يتطلب من كل الحادبين على مصلحة النيل الأزرق التحرُّك والعمل الجاد لأجل عقد مؤتمر مصالحة شاملة بين كل مكونات الإقليم السياسية والقبلية والعسكرية المناوئة لبعضها البعض.
على أن تبدأ المصالحة المطلوبة في الإقليم عملية مستمرة بالتوافق الوطني السلمي الديمقراطي وتنتهي بالسلام وإعادة بناء الإقليم، وأن تتحمل كل الأطراف المتنازعة مسؤوليتها فتعترف للمتضررين بحقوقهم كاملة وتتحمل مسؤولية الضرر الحادث من الخلاف بينها، وتجتهد لرأب الصدع وللتأسيس لعقد اجتماعي جديد قائم على العدالة والتكافؤ والمواطنة ودولة المؤسسات، والحفاظ على السلام على كافة المستويات، إدراكاً منهم أنه بالرغم من تطاول سنين الصراع أن فرص العيش لكل مكونات الإقليم السكانية تكمن حصراً اليوم وغداً في قبول الطرف الآخر المختلف كمعبر نحو المصالحة والسلام والتنمية المستدامة، لا سيما وأن المصالحة الاجتماعية والوطنية ورأب الصدع الاجتماعي الناتج عن سنين الصراع وآثاره لا تتحقّق إلا بوقف الصراع والعمل العسكري وبالمضي بحل سياسي سلمي يشمل أبناء النيل الأزرق كافة، ويمثلهم وصولاً لصيغ فاعلة لإعادة بناء الإقليم والعودة به إلى عجلة التنمية والتطور، وعليه فإن المصالحة والتماسك الاجتماعي بهذا المعنى يأتيان لا كهدف بل كنتيجة لعمل متكامل نحو تأسيس العقد الاجتماعي الجديد، تُبنى على الافتراض أن كافة السياسات القطاعية الأخرى في وثيقة التصالح المفترضة، مصممة بمنهج يدعم المصالحة وبناء السلام، وتبدأ بالاعتراف بالآخر وحقه في العيش في مجتمع آمن مزقه الصراع، فتركز على ضرورة قبول الأطراف لبعضها كخطوة أولى نحو حفظ السلام والعيش المشترك، الأمر الذي يدعونا للقول إن عملية صناعة السلام واستعادة التماسك الاجتماعي في النيل الأزرق ستكون عملية مضنية، ومعقدة وطويلة لا تكتمل إلا باكتمال الحل السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حد سواء فلا توجد مقاربة واحدة لإجراء المصالحة المجتمعية واستعادة التماسك بين مختلف مكونات المجتمع، بل هي عملية مستمرة تبدأ لحظة الاتفاق على حل سلمي ولا تنتهي إلا بانتفاء أسباب العودة إلى الصراع.
إلَّا أن ذلك لن يُكتب له النجاح، ما لم يمتلك الإقليم سيادته الكاملة من خلال تطبيق مبدأ الحكم الذاتي الممنوح له بفضل اتفاقية السلام بمفهومها الأساسي الحامل الرئيسي لعملية السلام المُستدام، وخلق بيئة قانونية وأمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية تكون حاضنة لعملية المصالحة السياسية والاجتماعية، وقطعاً لن يتحقق السلام الشامل في الإقليم إلا عبر تعاون الهيئات المدنية بمُختلف أشكالها بشكلٍ خاصٍ، ومن ثم يجب أن تلعب التحالفات بين المجالس المحلية والإدارات الأهلية والمنظمات غير الحكومية دوراً أساسياً في عمليات المُناصرة والتوعية ومُواجهة اقتصاد الحرب وخطاب الكراهية والتحريض القبلي والعنصري، وذلك عبر استثمار جميع طاقات رجالات الإدارة الأهلية والعمد والقادة المحليين ورجال الدين ورجال الفكر والتكنوقراط بشكل متكامل لمواجهة خطاب الكراهية وحفظ السلام المحلي، لجهة وقف أعمال العنف وتفعيل الحوار السياسي وتطبيق العدالة الانتقالية بمسارها الأكثر خصوصية والمتعلق بتعزيز المصالحة والسلم الأهلي والمجتمعي، الأمر الذي لا يمكن أن يتم إلا عبر برنامج يجب أن يستوعب كل جهد تنموي وإصلاحي يلي الصراع، شريطة التواثق على نفي أسباب العودة إلى الصراع من خلال بناء تركيبات راعية للسلام في الإقليم تساهم في الحد من الغضب ونقص العدالة وتقريب وجهات النظر وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة، من خلال نشاطات إعادة البناء والتنمية والتواصل المستمر، لا سيَّما وأن التوافق السلمي والعملية السياسية الانتقالية والممارسة الديمقراطية السليمة يجب أن تنعكس على تشاركية القاعدة، وإشراك المُجتمعات المحلية والمُجتمع المدني، حتى تصبح هي الحامل الأول لعملية المصالحة الوطنية والاجتماعية في الإقليم، وحتى هذا لن يكتمل ما لم يتم وضع خطة واضحة لسياسات مشاركة السلطة ونقلها وبناء المؤسسات الديمقراطية وقدراتها الحوكمية وإصلاح الأجهزة الأمنية والقضائية والقانونية بالإقليم، وإخضاعها لسلطة القانون والعمل الفاعل على فض النزاع، ونزع السلاح ودمج الجيوش والمجـموعات العسكرية المتقاتلة في مؤسسة عسكرية وموحدة.
يعقب كل ما سبق أهمية تحويل المؤسسات العامة إلى مؤسسات تحفظ السلام، وتحمي حقوق الإنسان وترسِّخ لثقافة احترام سيادة القانون، ويعد الاختيار الدقيق للمسؤولين الحكوميين ولا سيما في قطاعي الأمن والعدالة والإعلام، أمرا ذا أهمية حاسمة لتيسير هذا التحول، على أن يتضمن ذلك دورات تدريبية شاملة للمسؤولين والموظفين الحكوميين بشأن حقوق الإنسان ومعايير القانون الإنساني الدولي الواجبة التطبيق، فضلاً عن الأخذ بعين الاعتبار أن المصالحة بشقها الاجتماعي هي العملية الأبعد تحقيقاً والأعمق تأثيراً، وتحتاج لآليات مناسبة ومتنوعة قادرة على استيعاب حجم الألم والاعتراف بالعنف الذي مر به المعنيون كافة على مدى سنوات الصراع، مع أهمية عمل الجهات المختصة على تطوير وتطبيق سياسات الحماية والتنمية الاجتماعية المتكافئة والتضمينية للمضي قدماً نحو المصالحة، خاصة وأن التعليم التوافقي الوطني والوصول المتكافئ لخدمات الصحة والتعليم ودعم الاستجابة والتنمية المحلية بكافة أشكالها، ودعم دور الإعلام الإيجابي في إيصال رسائل المصالحة والعمل على العودة الكريمة والطوعية للاجئين والمهجرين والنازحين وإعادة إدماجهم وإشراكهم في إعادة بناء حياتهم وتقديم الدعم النفسي، كل هذا يساهم في دعم جهود المصالحة بالنيل الأزرق اجتماعياً، وبناء العقد الاجتماعي الجديد على المدى البعيد بهدف خلق إقليم المواطنة والمؤسسات وحماية السلام واستدامته.
نخلص إلى ضرورة اتخاذ حكومة الإقليم عديد إجراءات لحظة إحقاق المصالحة تتلخص في ضرورة وضع التشريعات والقوانين التي من شأنها تجريم اقتصاد الحرب وتطبيقها بشكل فوري، إجراء حملات توعية لدفع القوى المحلية من مجالس ومنظمات مجتمع مدني للمساهمة في الحد من النزاعات وخلق الفتن بالإقليم، لا سيَّما وأن عملية المصالحة وبناء السلام لن تتم دون عمليات تداخل جماعية تساهم فيها مؤسسات الدولة ومنظومات الحكم المحلي ومنظمات المجتمع المدني، الأمر الذي يتطلب وجود سلطات حكم محلي فاعلة، وتداخلاً فعالاً من قبلها بما يُمكِّنها من المضي بالمبادرة بالاستجابة والتنمية المحلية والمساهمة في إعادة تدوير عجلة الاقتصاد في مناطقها، ومن الواجب أن تترافق هذه المصالحات بعملية بناء الحوكمة المحلية بأسرع وقت ممكن بما يخدم المصالحة وبناء السلام في إقليم النيل الأزرق، حينها سنراه بلا شك في قمة أقاليم السودان المستقرة والأكثر أمناً واستقراراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً.