كل التّعميمات خطيرة..!
“الحقيقة النقية البسيطة نادراً ما تكون نقية، ويستحيل أن تكون بسيطة”.. أوسكار وايلد..!
(1)
نشرت صحيفة “المجهر السياسي” – قبل نحو ثلاث سنواتٍ – حواراً أجراه زميلنا الأستاذ “صديق دلاي” مع د. سهير أحمد صلاح، القيادية بحزب المؤتمر الشعبي، تَحَدّثت خلاله عن ما تشعر به من ندمٍ لأنّها أضاعت فُرصةً عظيمةً منحها إيّاها الشيخ “حسن الترابي”، حينما قدّمها وطلب منها أن تؤم الصلاة. فجَبُنَت، وخاطبت شيخها قائلةً: “كيف أكون إمامةً عليك”، فأعطاها مُكبِّر الصوت لتقيم الصلاة. وعن هذا يقول الإمام ابن رشد القرطبي: “اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنّه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق”، فإذا كان الشيخ الترابي قد شذ بهذا القول، فقد شذ أبو ثور والإمام الطبري!. د. “سهير صلاح” عاشت في بلاد الغرب، وشاهدت نساء قد أوكلت إليهن إمامة صلوات فيها رجال، لكنها قالت إنّ هذا مِمّا لا يُمكن أن يحدث عندنا في المُجتمعات المُحافظة، وهي لم تجبن عن استثمار فُرصة الإمامة التي عرضها عليها الشيخ لأنّها كانت تتبنَّى قناعةً مُخالفة لما أفتى به شيخها، لكنها سَطوة العرف التي تتقاطع – أحياناً – مع ما قد يُجيزه الدين، وأسوار التّقاليد التي يَصعب في أغلب الأحوال من فوقها – فنكون كمن يتسَوَّر حرمات المقبول – وإن أفتانا أعظم الفقهاء بجواز ذلك. فالقول بجواز بعض الأفعال في مُجتمعنا شيءٌ، وإجازة ذات المُجتمع لأحقيتنا في فعلها شيءٌ آخر، وهذا ما أدركته د. “سهير” أيَّما إدراك، فقايضت سلام حُضُورها الاجتماعي بسلامة تجديدها الثوري. ولا تثريب عليها..!
(2)
الكاتب المصري “يوسف زيدان” قال إنّ “صلاح الدين الأيوبي” هو واحدٌ من أحقر الشخصيات في التاريخ الإنساني، لأنّه أحد الذين استباحوا الدماء من أجل السلطة، وإن بعض الوقائع التاريخية تُؤكِّد أنّه أحرق مكتبة القصر الكبير، لمُبرِّر سياسي لا يزال سارياً حتى عصرنا هذا، وهو “مُحاربة الفكر الشيعي”. وقال – أيضاً – إنّه قد ارتكب جَريمةً إنسانيةً عندما منع الفاطميين – الذين حَكموا مصر نحو قرنين ونصف – من التّناسُل، عندما قَامَ بعزل ذُكُورهم عن إناثهم بحيث لا يَجتمعون حتى يقطع نسلهم، وإنّه قد سمح لليهود بدخول القدس، بعدما كانت العهدة العمرية تمنع ذلك!. فكان تعليق الكاتب المصري العظيم د. أحمد خالد توفيق – رحمه الله – كالآتي: “لا توجد شخصيات بيضاء أو سوداء في التاريخ، بل هناك الرمادي بدرجاته، وفيلم صلاح الدين لم يُقدِّم سوى البياض الساطع الشبيه بأثواب الحجاج، بينما مقال د. يوسف زيدان لم يُقدِّم سوى السواد. التّاريخ شَأنه شَأن أيِّ علمٍ يُخضع للجَدل والتّغيير والانقلابات، فرجل الشارع عندما يقرأ مقال يوسف زيدان لن يبحث أبداً عن رأي مُختلفٍ ولن يُحاول تفنيد المكتوب، وهذه هي نقطة اختلاف الرجل العادي عن الباحث الأكاديمي الذي يعرف بالضبط ثقل أو خفة المعلومة التي يطالعها..!
(3)
هنالك دوماً مساحة رمادية ضاجّة بالتّعقيدات وحافلة بالتّناقُض، لكنها أيضاً غنية بأوجه الشبه الإنساني ومُوجبات الالتقاء مع بعضنا كأُناسٍ والانتماء إلى بعضنا كبشرٍ. لا يُمكن للإنسانية أبداً أن تختزل نفسها في خير صرف أو شر مَحض!. إن كان اختلاف وجهات النظر بشأن مفهوم الوطنية هو ما يُفرِّق الناس، فإنّ الوطن هو ما يُوحِّدهم. حريٌّ بنا – إذن – أن نستثمر الاحتمالات على اختلافها، لا أن نبدِّدها بتأكيد السيئ منها. فنحن عندما نَسعى إلى التّغيير الإيجابي بأرقى الوسائل، لا نُغيِّر الماضي بل نُغيِّر المُستقبل..!