ما هي الفُرص المُتاحة لنجاح التفاوُض الذي سيُستأنَف مرة أخرى بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية، إذا نجحت الوساطة الأثيوبية في إعادة الجميع إلى طاولة المفاوضات..؟ بالطبع الإجابة على هذا السؤال صعبةٌ وسهلة في نفس الوقت! فالتفاوُض حفّته ظروف مختلفة تماماً عن مُعطيات الواقع الحالية التي تغيّر بموجبها طقس التفاوض والأجواء المحيطة به، فالمجلس العسكري الانتقالي بعد فض الاعتصام وإخفاق ما يُسمّى بالعصيان المدني وفشله، يبدو أنه في وضع تفاوُضي أفضل، لأنه ليس تحت أي ضغط داخلي، ويمكنه مُجابهة الضغوط الخارجية، خاصة أن تطوّرات سياسية بوقوف تيّارات حزبية واجتماعية وشعبية أظهرت وجهها وكلمتها في شكل مسيرات داعِمة للمجلس قلَبت موازين القوى، وجعلت موقف المجلس العسكري أكثر قوة مما سبق، وهو لا يتعامل مع فصيل سياسي واحد، بل ينظر للجميع حيث لا يحتكر الشارع أو رأي الشعب أحدٌ أو جهة واحدة .
بالنسبة لقوى إعلان الحرية والتغيير، فهي في موقف أضعف من السابق، كانت تَستعصِم بالاعتصام الذي تمّ فَضُّه، وجُرِّدت من أهم أسلحتها، وحاوَلت اللجوء إلى أسياف الإضراب والعصيان المدني، لكنها لم تُحقّق الأهداف المطلوبة، وعادت بخُفَّي حنين، لكنها تجد في قرار الاتحاد الأفريقي والوساطة الأثيوبية وبعض المواقف الخارجية سلوى وعزاءً، قد تُعوِّضها خيباتها، كما تظن، ويعتقد قادتها أن بإمكانهم العودة إلى التفاوُض بذات المكاسِب السابقة، تُضيف إليها ما سيُعطى لها إذا تم التوافُق على قسمة أعضاء المجلس السيادي .
إزاء هذين الموقفين، يُمكن قراءة ما ستكون عليه عملية التفاوُض، ويجب أن يكون دور الوسيط الأثيوبي محصوراً فقط في إعادة دوران عجلة المفاوضات، وليس اقتراح أي حل، فالمطلوب كان هو تحريك المواقف المُتَعنِّتة تجاه مواصلة الحوار التفاوضي، وليس تقديم حلول لنقاط الاتفاق، فنقاط الخلاف المُختَزَلة في نِسَب التمثيل في المجلس السيادي، لا يمكن مناقشتها الآن، لقد تمّ تجاوُزها، فمن الأجدى أن يبدأ النقاش من جديد، لأن النقاط التي حُسِمت في السابق أُلغِيت بإلغاء الاتفاق، وهي محل خلاف كبير بين كل مكونات الحياة السياسية، فالنسبة التي أُعطِيت في المجلس التشريعي للحرية والتغيير 67% لا يوجد من يوافِق عليها في القوى السياسية الأخرى، فضلاً عن آراء ذات تقدير في المجلس العسكري نفسه، بالإضافة إلى أن الجهاز التنفيذي ـ أي الحكومة ـ فهي لن تكون على الطريقة التي جاءت في الاتفاق المُلغَى بجعل ترشيحات الوزراء بيد الحرية والتغيير وحدها، ومُحتكرة لها، فهناك آخرون، وتوجَد مُكوّنات سياسية تُمثّل أركاناً في البناء السياسي الوطني لا يجوز وغير مفيد تجاوُزها، وإن حدث ذلك، ستتعقّد الأوضاع أكثر وستتكرّر حالة الرفض والعصيان من القوى السياسية الأخرى التي لم يُسمَع رأيها أو لم يُؤخَذ به .
وفِي هذا الصدد، لا ننسى أن رئيس الوزراء الأثيوبي لدى زيارته للخرطوم وطرحه مبادرته ووساطته، التقى بقيادات الأحزاب السياسية الأخرى، واستمع إليهم، فلا يمكن أن تنتقي مبادرته فقط الحرية والتغيير، فنجاح الوساطة يكمُن في استيعاب كل الآراء، وإشراك الجميع في العملية التفاوُضية، فالأفضل طبعاً هو تحاور المجلس العسكري مع الجميع، عدا المؤتمر الوطني، وتصنيع حلٍّ مشترك تُسهِم فيه ـ دون الحزب الحاكِم السابق ـ كل الأطراف والمِلل والنحل السياسية .
إذا عاد التفاوُض بصيغه وأفكاره التي تم إلغاؤها، وبنفس أفكاره المرفوضة من قبل، فلا فائدة منه، ولا خيار أمام المجلس العسكري سوى إعلان حكومته، والمضي قدماً في ترتيبات الفترة الانتقالية، وقيام الانتخابات في غضون التسعة أشهر، ونقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، فلا مجال لعودة التفاوُض بموضوعاته القديمة، ولا صيغته الضالّة التي تسبّبت في إثارة الغبن والضغينة السياسية ..!