27فبراير2022م
الذي حدث الثلاثاء الماضي في قلب العاصمة الخرطوم، لا أجد له وصف سوى أنه تخريب بالمُطلق غير مبرر، سواء كان من المواطن أو من الشرطة نفسها، لا صلة له البتة بالحرية والتعبير عن الرأي، ولا بالسلوك الديمقراطي، ما حدث أمس ليس سوى سلوك همجي، وإلا ماذا نسمي الاعتداء على سيارات المواطنين والممتلكات العامّة والخاصّة؟ وإذا كان علينا أن نرفض الإذعان للقانون ونرفض تطبيق قرارات مُؤسّساتنا الدستورية، فعندئذٍ لا معنى للقول إننا مجتمع إنساني، فمثل هذه التصرُّفات التي قام بها المتظاهرون يومها لا نجد لها مسمىً غير أنها فوضى عارمة، ولا شيء آخر سواها، وأسوأ من أولئك هم الذين قادوهم ودفعوهم إلى هذا الهياج غير المبرر، لا سيَّما وأنه (المبرر) الذي بسببه خرج هؤلاء ما هو إلا مبرر واهٍ، وليس بسبب كافٍ لما حدث بالأمس من قبل المتظاهرين، ومع ذلك فهو ليس بمبرِّرٍ كافٍ كذلك للشرطة حتى يستدعيها لاستعمال تلك القوة المفرطة في تفريق المتظاهرين.
وبالنظر للسبب الرئيسي الذي استدعى خروج هؤلاء الشباب للشارع طوال أشهر الثلاثة التي أعقبت قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، نجد أنه جاء احتجاجاً على قرار رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بإقالة عضوية المجلس من المدنيين وجُل مجلس الوزراء عدا الوزراء المُنتمين للحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام، الأمر الذي أفضى بالجهات المسؤولة عن التعبئة الجماهيرية والمتمثلة في تنسيقية اللجان الثورية، بتعبئة الجماهير للخروج احتجاجاً على تلك القرارات طوال الفترة الماضية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، إلى متى تستمر هذه التظاهرات والتي تستصحبها حالات كرٍّ وفر بين المتظاهرين والشرطة؟، فضلاً عن حالات التخريب البشعة للطرقات الرئيسية وسط العاصمة الخرطوم؟ والتي صار مظهرها الآن لمدينة الأشباح من كونها عاصمة كانت مضرب المثل في النظافة والجمال؟ ويا تُرى إلى ماذا تُخطِّط لجان المقاومة؟، وما الذي تريد أن تصل إليه؟، وهل في ظنها أن ما يجري على الأرض من حالات تخريب للطرق وتتريس الشوارع الرئيسية من شأنه أن يقيل الحكومة الحالية؟ وبالمقابل، هل تعتقد الشرطة أن تعاملها المُفرط مع الشباب المتظاهرين من شأنه أن يوقف هذه التظاهرات؟ ناهيك عن عمليات التتريس الغريبة التي حدثت في ولايتي نهر النيل والشمالية خلال الشهرين الماضي والحالي، والتي بلا شك أحدث ضرراً بالغاً بالاقتصاد السوداني جرَّاء إيقاف حركتي الصادر والوارد من السودان إلى مصر وبالعكس كذلك.
قطعاً فالإجابة.. لا، وألف لا.. فلا الطريقة التي يتبعها هؤلاء الشباب هي الحل للمشكل السياسي السوداني الحادث الآن، ولا عمليات العنف والترهيب والتفريق التي تتبعها الشرطة ستأتي بالحل المأمول.
وبالمتابعة الدقيقة لمسار العمل السياسي في السودان عقب سقوط الحكومة البائدة في الحادي عشر من أبريل من العام 2019م، نجد أنّ الكثيرين من المُواطنين ظلوا في حالة تحريض من قبل حتى أعضاء المكون المدني داخل مجلسي السيادة والوزراء السابقين، وللأسف لاتخاذ مواقف ضد أنفسهم، ورفض القرارات والسياسات التي تحقق مصالحهم، حيثُ ظلت العديد من القوى السياسية وتجمعات المصالح تعمل بِجِد على رفض العديد من القرارات الحكومية، بشقيها المدني والعسكري، وبمبررات واهية، يخدعون بها المواطنين ويستخدمونهم أو يزجون بهم في مواقف تخدم هؤلاء المتضررين من أي قرار من شأنه أن يُفضي إلى إصلاح العديد من الاعوجاجات الحادثة في جسد الدولة السودانية المُنهك.
ومثال لما ذكرناه أعلاه، الاحتجاجات التي صاحبت قرارات وزير المالية الخاصة بزيادة أسعار المشتقات النفطية، والتي بلا شك هي قرارات وطنية خالصة، وتصبُ في مصلحة الشعب عامَّة، حيث أن المبتغى المُراد من النفط خدمة الشعب وليس العكس، لا سيَّما وأن دعم النفط والمشتقات النفطية من الخزانة العامة، يعني أن الوضع مقلوب، بمعنى أن تأخذ الحكومة جزءا من أموالنا العامة وتُوجهها لدعم النفط والإنفاق عليه، ولا شك أن استمرار هذا الوضع أمر ليس فيه مصلحة عامة.
ولعل رفع الدعم عن المشتقات النفطية، وإصدار القرارات الدورية من المؤسسات السيادية وغير السيادية كذلك، فيما يختص بإدارة أعمالها وشؤون إداراتها، لا يُبرِّر لأيٍّ كان، ممارسة الفوضى والاعتداء على الأموال والممتلكات العامة والخاصة ومنفذي القانون، لسبب بسيط هو أن إصدار مثل هذه القرارات، لا ينطوي على خطر حقيقي يمس حياة الناس، كما أن آثارها الجانبية محدودة ويجب على الكل تحملها كلما كان ذلك ضرورياً ولبعض الوقت.
خلاصة الأمر، إن الحكومة ممثلة في المجلس السيادي، هي الجهة الأولى المعنية باتخاذ القرارات الرامية لتحقيق المصلحة السياسية والاقتصادية وفرض القانون وحماية قراراتها، فضلاً عن أنها معنية بذات القدر بحماية المواطنين من المتلاعبين بالأسعار والمحتكرين والمفسدين، الذين هم بالفعل من يتسبّبون في هياج الشعب وإجباره على الخروج إلى الشارع، بقراراتهم الهوجاء، ليجدوا في غضب المواطن أفضل عون ليخوضوا به معركتهم ضد الحكومة وضد القانون، وليدفعوهم إلى تخريب الشوارع والاعتداء على الأموال والممتلكات العامة والخاصة، وعلى المواطن كذلك ضرورة وضع المصلحة العليا نصب أعينهم، وإفساح المجال للمؤسسات الحكومية كافة، مدنية كانت أو عسكرية، أن تعمل بجد وصولاً لأسمى مراتب تحقيق الرفاهية للوطن والمواطن، وعلى قِوى الحرية والتغيير، ولجان المقاومة، وكل من يعتقد أنه يعمل لمصلحة الوطن، أن تعمل جاهدةً لجهة الاتفاق أولاً على كلمة رجل واحد، وبرنامج فاعل يتضمّن خُططاً تنموية حقيقية، وفي كل المجالات الاقتصادية والتجارية والصناعية والزراعية والهندسية، لأجل إنفاذها على الأرض، وصولاً إلى تنمية حقيقية تعم السودان كافة وتُخرجه من الوهدة التي قبع فيها طوال الثلاثين سنة الماضية، وهذا لن يكتمل إلَّا بتوحيد الرؤى والبرامج والاتفاق الكامل بين المكونيْن العسكري والمدني وسعيهما الجاد لأجل التوصُّل لصيغٍ راسخة للاتفاق على تجاوز السلبيات التي صاحبت فترة السنوات الثلاث الماضية والتي كادت أن توصل الاقتصاد السوداني لمارد الهلاك.