الغلاء والركود يُسيطران على الأسواق عقب عطلة العيد
أسعار السلع ترتفع وتتجاهل استقرار سعر الصرف
الخرطوم: جمعة عبد الله
تُعطي نظرة سريعة على أسواق الخرطوم صورة عن واقعها، فالانتعاش الموسمي الذي كان يسبق العيد الذي كانت تنتظره لم يحدث هذا العام لأسباب متعددة، منها الغلاء وغياب الكاش والركود الحاد مع الاحتقان السياسي الذي أثر سلبًا على الأسواق، واقتصر النشاط على متاجر السلع الغذائية، فيما أغلق عدد من المحال التجارية أبوابها أو باتت تعمل بنصف دوام، وفي كل الأحوال كان الغلاء سيد الموقف لمن يريد التبضع وشراء مستلزمات العيد.
بشكل عام، ليس ثمة جديد على أسواق الخرطوم، فأسعار السلع مرتفعة مسبقًا، وتعاني الركود ولا مجال لزيادتها أكثر من ذلك، ولا ارتفاع جديد في الأسعار فهي مرتفعة بالفعل، والسلع متوفرة، ولا توجد ندرة، وتعمل متاجر السلع والخضروات واللحوم فيما تعمل الصيدليات ومتاجر الكماليات الأثاثات والملابس والصيدليات بنصف دوام.
وسيطر الركود وغلاء الأسعار على أسواق الخرطوم عقب عطلة العيد، وهو وضع ليس جديداً، لكنه تزامن مع ظروف معقدة تمر بها البلاد، حيث أدى الاحتقان السياسي واستمرار الفراغ الحكومي لصعوبة قراءة والتنبؤ بما ستؤول إليه الأمور قبل تحقق الاستقرار السياسي، فوجود حكومة مستقرة ضرورة لازمة للتحسن الاقتصادي، كما تباطأت أنشطة الأعمال مع ترقب وضوح اتجاه سياسة الاستيراد والنقد الأجنبي ولا يزال الاقتصاد يرزح أيضًا تحت إرث المشكلات السابقة.
أسعار مرتفعة
وكشفت جولة لـ “الصيحة” أمس بعدد من أسواق الولاية، عن قلة مرتادي الأسواق خلاف المستلزمات الاستهلاكية، وأغلق عدد من المحال التجارية أبوابها بسبب قلة الإقبال، مع تباين في الأسعار، حيث شهد عدد من السلع زيادات جديدة في السعر مثل السكر واللحوم الحمراء والبيضاء ومنتجات الدواجن، والزيوت، وارتفعت أسعار الخضروات بشكل طفيف، وبشكل عام، ما تزال السلع متوفرة بالأسواق والمتاجر، وإن سادت مخاوف من حدوث ندرة وشح في بعض السلع حال استمرار الاحتجاجات أو زيادة حدتها في الأيام المقبلة.
وارتفعت أسعار اللحوم والسكر بنسبة كبيرة، حيث بلغ كيلو لحم الضأن 400 جنيه، مقابل 280 جنيهاً للعجالي، وقفز جوال السكر الكبير إلى “1800” جنيه، والجوال زنة 10 كيلو 360 جنيها، وطبق البيض 150 جنيهاً، وكيلو الفراخ 180 جنيهاً، فيما شهدت بقية السلع الاستهلاكية زيادات طفيفة بدرجات متفاوتة، لكن ما يقلق التجار ليس ارتفاع الأسعار فقط، بل تدني القوة الشرائية لحدود غير مسبوقة بسبب استمرار غياب الكاش بين يدي الجمهور وصعوبة توفيره.
ويقول التاجر، عبد الباقي الشيخ حسين، صاحب محل إجمالي بالخرطوم، إن ركود السوق “ليس جديداً” رغم زيادة حدته بسبب الاحتجاجات، وقال إن أسباب الركود متعددة، موضحاً أن غياب الكاش يتصدر هذه الأسباب، بالإضافة إلى الوضع المعيشي الذي يواجهه أغلبية المستهلكين، مشيراً إلى أن غالب المتوافدين على الشراء يبتغون السلع الأساسية التي تنحصر في السكر والدقيق والزيوت وبعض الأغراض المنزلية اليومية.
وواصلت اسواق مواد البناء ركودها المستمر منذ أشهر، واستقر طن الاسمنت عند 8600 جنيه، والجوال 430 جنيهاً، وطن الحديد عند 53 ألف جنيه في المتوسط، و1400 جنيه لكل ألف من الطوب الأحمر، وتعد أسواق مواد البناء الأكثر ركوداً حيث تقل فيها القوة الشرائية بشكل كبير رغم انتعاش بعض بعض المواد البسيطة المستخدمة في التشطيبات المنزلية خلال فترة العيد مثل البوهيات والبوماستك ودهانات الطلاء.
وأرجع التاجر، الجنيد يوسف، أسباب ركود السوق وتراجع القوة الشرائية، إلى قلة الكاش، وقال لـ “الصيحة” إن أزمة السيولة أضرت كثيراً بالقوة الشرائية، موضحاً أن هناك أسبابًا أخرى منها أزمة الوقود التي كان لها دور في زيادة تكاليف النقل الداخلي كما تزيد من تكاليف الترحيل من مواقع الإنتاج حتى الأسواق.
وأرجع أحد التجار، فضل حجب هويته، أسباب زيادة الأسعار لتزايد تكاليف نقل وترحيل البضائع بين المخازن والمتاجر، مشيراً إلى أن أزمة الوقود لها دور في زيادة تكاليف النقل الداخلي كما تزيد من تكاليف الترحيل من مواقع الإنتاج حتى الأسواق.
استقرار سعر الصرف
وفي سوق النقد الأجنبي لم تتغير المعطيات كثيراً، فبقي الدولار مستقرًا عند 62 جنيهاً، وهو نفس السعر قبل عطلة العيد، ولكن متعاملين بالسوق أكدوا لـ “الصيحة” عدم تفضيلهم البيع بالشيك، نظراً لصعوبة تسييل الشيكات في الظروف الحالية، مشيرين لوجود طلب متوسط على العملات العربية لورود تحويلات خارج النظام المصرفي يقوم أصحابها ببيعها في السوق الموازية، حيث تنشط عمليات التحويل بكثرة في العملات الخليجية، وقالوا إن تزايد احتمالات تطور الأحداث في البلاد دفع بعض المواطنين للاحتفاظ بما يملكون من عملات أجنبية لتسييلها عند الحاجة.
وقال حميدان عبد الله، وهو تاجر في سوق العملات بالخرطوم، إن سعر الدولار 62 جنيهاً والريال السعودي 17 جنيهاً، موضحاً أن هذه الأسعار ظلت كما هي منذ ما قبل عطلة العيد.
ولا تعد أسعار الصرف في السودان “واقعية” حتى في الظروف العادية، لكونها تعتمد على عدة مؤشرات لا علاقة لها بالاقتصاد، وهو ما يجعلها ترتفع وتنخفض ثم تعاود الارتفاع مجدداً، كما تعتبر المضاربات ونشاطات الوسطاء أحد أسباب ارتفاع أسعار الصرف، وفي المقابل تُشكل التدابير الحكومية ولو كانت صورية من دون تنفيذ، سبباً لانخفاضها، كما تتسع الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي لما يقارب 50% من قيمة العملة الحقيقية، وهو ما يجعل تحديد سعر واقعي أمراً بعيداً من المعطيات.
استمرار أزمة السيولة
واستمرت أزمة السيولة وغياب الكاش مع عدم تغذية الصرافات الآلية بالمال خلال فترة العطلة، وانتشرت ظاهرة تحويل المال من الصرافات إلى الهاتف وبيعه كرصيد رغم قلة المبلغ المتاح للتحويل بين 100 إلى 500 جنيه، حيث لا يزال القطاع المصرفي يعاني من عزوف العملاء عن إدخال أموالهم للبنوك، بسبب عجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه العملاء عند الحاجة، ولم تفلح الجهود السابقة في حل أزمة السيولة رغم طرح البنك المركزي فئات “100 – 200” – “500” جنيه، إلا أن الأزمة ما تزال تراوح مكانها.
خسائر طائلة
وقد تكبد تجار الملبوسات والمستلزمات الكمالية خسائر طائلة، بسبب توقف تجارتهم كلياً خلال اليومين السابقين للعيد، وشملت الخسائر تجار الملبوسات والأثاثات، حيث يعتبر العيد موسماً لا يمكن تعويضه.
وقال أيمن الأمير تاجر ملابس بسوق الكلاكلة اللفة، إن خسائرهم لا تحصى، مشيراً إلى أن بعض التجار مواجهون بديون ضخمة عبارة عن مبالغ جلب البضائع التي لم تمكنهم الظروف من تصريفها كالمعتاد، وقال إنهم في حيرة من أمرهم حيث تتكدس محالهم بكميات كبيرة من ملبوسات العيد ولا وجود لمشترين.
وقريباً منه يقول صاحب محل أثاثات إن عيد هذا العام خلا من المشترين بخلاف ما كان متوقعًا لموسم ينتظرونه مرتين فقط في العام لافتاً إلى أن بعض التجار عجز عن توفير جزء من تكاليف المصنعية للأثاثات المصنعة.
توافق وتكوين حكومة
ورهن الخبير الاقتصادي دكتور عادل عبد المنعم حل مشكلات الاقتصاد في البلاد بإزالة حالة الاحتقان السياسي السائدة، وإحداث توافق يمهد لتشكيل حكومة تملأ الفراغ الحالي، مشيراً إلى أن معالجة أزمة الاقتصاد السوداني مهمة “ليست سهلة”.
وعزا عبد المنعم في حديث لـ “الصيحة” تفاقم الوضع الاقتصادي في البلاد إلى الخطأ الذي وقعت فيه الدولة في السابق ولم تُجرِ أي معالجات له، وأشار في حديث لـ “الصيحة”، أن الخطأ الأول سياسة التحرير الاقتصادي وترك الحبل على الغارب في القطاع الخاص الذي فشل في توفير نقد أجنبي للبلاد، وعجز عن إحلال الواردات وتقليل الصادرات فضلاً عن أن الاستثمارات الخارجية لم تعُد على البلاد بالفائدة المرجوة حيث اقتصرت على الخدمات بجانب فتح المعابر مع مصر دون إجراء الدراسات الكافية عقب انفصال الجنوب مما أدى الى استنزاف كبير في الموارد مع استمرار سياسات عدم رفع دعم الوقود والخبز لتعويض عجز الإيرادات، لافتاً إلى أن ميزانية العام الماضي أشعلت الشرارة خاصة عقب سحب التجار الرأسماليين أموالهم من البنوك وتحويلها لعملات صعبة، مما أفقد الجنيه قيمته بنسبة أكثر من 100%، إضافة إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق وشح الموارد في العملات الأجنبية، وجاءت الطامة الكبرى بشح السيولة والتي نتجت عن علاقة طردية بين ارتفاع التضخم وشح السيولة وعدم التعامل بالنقد المباشر واللجوء إلى الدفع الإلكتروني، وقال إن أمام الحكومة إجراء سياسات سريعة وعاجلة للسيطرة على الوضع الحالي عبر وقف الاستيراد وتقليل استخدامات الدولار، ورفع الدعم عن الوقود والخبز ودعم الدواء والسلع الأساسية، داعياً إلى تأميم البنوك جزئياً بنسية 52 بالمائة.
دعوة للإصلاح
وحذرت الخبيرة الاقتصادية، د. إيناس إبراهيم، من خطورة تجاهل الوضع الاقتصادي الحالي، وقالت في حديث لـ “الصيحة”، إن الظروف الحالية معقدة وخطيرة أكثر من أي وقت مضى، وأكدت أهمية التوافق السياسي أولاً ثم تكوين حكومة تقوم بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية حقيقية تشكل أرضية لإصلاح الوضع المعيشي للمواطن، وتجنب انفلات الأوضاع في حال استمرار الأزمة هكذا دون حلول جذرية، وقالت إن البيئة الاقتصادية الحالية لا تساعد على تحقيق أدنى طموحات المواطنين، ودعت لأن تشمل الإصلاحات المقترحة، التركيز على المشروعات الإنتاجية خاصة الزراعة وما يتصل بها من الصناعات التحويلية ورفع حجم الصادرات وتذليل العقبات الحكومية أمام المنتجين، والتي قالت إنها تتمثل في تعدد الرسوم والجبايات لحد أخرج الكثيرين من دائرة الإنتاج لصعوبة العمل في ظل أوضاع غير محفزة على الإنتاج، وكثيراً ما يتكبدون الخسائر.
وبعيداً عن الاحتجاجات وأثرها على السوق والحركة التجارية، تشهد البلاد منذ عدة أشهر، أزمة اقتصادية غير منكورة، تمثلت أبرز انعكاساتها في تراجع قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم وارتفاع الأسعار الذي شمل كل السلع دون استنثناء بنسب تتباين بين “50 – 100%”، مع أزمة سيولة سببت ركوداً بائناً في النشاط التجاري، مما أدى لإرغام المواطنين على حصر احتياجاتهم في خيارات أقل تشمل السلع الأساسية أولاً.