بصيص أمل الوساطة .. وبهيم فض الاعتصام
زيارة آبي أحمد ..محاولة استكشاف ما وراء الأزمة أم إلقاء طوق نجاة قبل الطوفان ؟
الساحة السياسية أمام خيارين فقط يُحددان مستقبل العلاقة بين المجلس العسكري والحرية والتغيير
حفلت أيام الله السبعة الماضية بما فيها نهاية شهر رمضان المعظم وفترة عيد الفطر المبارك ، بأحداث وحادثات جسام ، لها وطأة شديدة على مسارات الأوضاع في البلاد ، وسيكون لها ما بعدها ، ولا يستطيع المُراقب والمُحلّل تجاوز تفاصيلها الصغيرة أو مآلاتها المتوقعة ، فهي سلسلة متصلة الحلقات ، ووقائع وحيثيات تجر رقاب بعضها البعض وتأخذ بتلابيبها بنفسها، وغير بعيد على الإطلاق أن ما سيتشكل عليه المشهد السياسي العام في البلاد لا يخرج من هذه الدوائر المتداخلة ، حيث أن الداخل السوداني وما يدور فيه من تفاعلات وانعكاساته وأصدائه في الخارج على مستوييه الإقليمي والدولي لن يختلف عليه في أنه مفترق طرق وليس مجمع دروب تُفضي إلى نهاية دائمة .
ولعل أبرز ما شهدت الأيام الماضية هو الوقوف عند حافة الهاوية ومحاولات الصعود إليها ، كما يقول فلم مصري قديم ، أو العمل على تجنب هذه الهاوية والابتعاد عن خطرها الماحق ، تمظهرت الأحداث دون ترتيب في زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي وطرحه مبادرة تسعى لرأب صدوع العلاقة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير ، وقبل الزيارة كان هناك فض الاعتصام الذي أصبح كحدث مدوِ بمثابة حائط المبكى للقوى السياسية التي تدعم وجود المعتصمين في الساحة أمام قيادة الجيش ، ثم هناك تداعيات إنهاء الاعتصام وما صاحب ذلك من ردّات أفعال قادت إلى إغلاق الطرق في الأحياء وحالة الاستقطاب الحادة التي أدت إلى لحظات افتراق كاملة بين الفرقاء السياسيين والقيم والموروث السوداني في الخلاف السياسي ، والذي اضطر رئيس الوزراء الإثيوبي (آبي أحمد) إلى استهجان الاتهامات التي سماها (المبتذلة) الصادرة عن السياسيين السودانيين ، وتلك لعمرك إذا فهمت في سياقاتها الظرفية لطخة ووصمة عار في جبين كل سياسي سوداني تم الإشارة إليه ودمغه بابتذال اللسان وهو يلقي التهم جزافاً .
ولعل اتجاهات الأحداث ما بعد هذا الأسبوع الحامي تشير إلى اتجاهيين اثنين لا ثالث لهما ، ستكون عليهما حال البلاد ومستقبل الفترة الانتقالية، وهما :
1/ إذا كُتب على علاقة المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير أن تتأزم كلياً وتنهار ، وتحولا إلى نقيضين أو بالأحرى خصمين كما يبدو من الحملة الإعلامية الجائرة التي تشن على المجلس ومكوناته من القوات النظامية وخاصة الدعم السريع ، فإن منطق الأشياء سيزيد اليقين ببقاء طرف واحد فقط متماسكاً وفاعلاً في الساحة ، مع تناقص فرص أي من الطرفين في الحفاظ على مكامن قوته ، وهنا تجب الإشارة إلى أن قوى الحرية والتغيير لا تمتلك مقومات التماسك الحيوي والبقاء موحدة وفاعلة وسيضربها انقسام حاد وتعود مكوناتها إلى منابتها الأحادية ، وستنهض قوة ثالثة من الكتل السياسية المتحالفة تكون حجر الزاوية للفترة الانتقالية .
2/ إذا نجحت الجهود في إعادة التفاوض بين المجلس العسكري والحرية والتغيير وتغيرت لغة الخطاب السياسي وتم تجاوز الخلافات ، ستتجنب الساحة حدة المواجهات السياسية ، وستمضي الفترة الانتقالية بخيرها وشرها حتى الانتخابات ، لكن ثمن التنازلات سيكون كبيراً على الطرفين معاً ، وسيمتص المجلس العسكري أي صدمة قد تصيبه من التنازلات نظراً لقوة المؤسسات التي يمثلها وفاعلية تأثيرها ، أما قوى الحرية والتغيير قد تكسب وتربح القليل لكنها ستكون ضحية للتنازل الكثير .
عليه فإن الأحداث التي مرت إذا انتخبنا منها حدثين فقط ، فإن الخلفية والمؤثرات الضوئية والصوتية للفترة المقبلة ستكون هي هذين الحدثين .
فض الاعتصام
لا يُعرف على وجه الدقة ما الذي أسرع بالخطى وحدوث الطلاق البائن بينونة كبرى بين المجلس العسكري وشركائه في قوى الحرية والتغيير؟ وما هي اللحظة الحاسمة التي تم فيها اتخاذ قرار فض الاعتصام ؟ فقد كانت الأمور تسير بين الطرفين في تأرجح متسارع ، لكن لم يكن من أحد ليتصور أن نهاية وخاتمة المطاف كانت قد كتبت بهذه الكيفية على طرفي شراكة لم تُولد بعد .. برغم أن ظروف بيئات متناقضة وغامضة كانت تهب إرهاصات تلك الولادة المتعثرة لشراكة سلطوية انتقالية حادة الحواف .
قبيل فض الاعتصام بأيام تكونت قناعات لدى كل طرف بجدوى التكتيكات في بلوغ الأهداف السياسية المطلوبة وكثر التزايد على المواقف ، وانزلقت الألسن بالمخبوء والمستور الذي لم يشأ كل طرف في التصريح به ، وبدا أيضاً أن المجلس العسكري الذي مد حبال صبره زاهداً في المضي مع قوى الحرية والتغيير ، وشعرت هذه الأخيرة أيضاً أنها كلما مارست ضغوطاً على المجلس حققت ما تصبو إليه وكسبت مغانم في السجال الدائر بينهما ، وعلى خلفية التصريحات التي كانت تصدر من هنا وهناك والمواقف التي برزت بشكل لافت من الاتفاق الذي تم الإعلان عنه بمنح الحرية والتغيير تشكيل حكومة كاملة، ونسبة 67% من المجلس التشريعي الانتقالي، وتبقت نسبة المشاركة في المجلس السيادي ، شعر كثير من متابعي الحلبة أن تعارض المواقف وتباعد الآراء سيقود حتماً إلى طريق مسدود ، ومن عجب فقد وصل الجميع إلى الطريق المسدود في غضون أيام قلائل .
وجاءت الأحداث التصعيدية لتصب زيتاً على نار لم تهدأ أصلاً وزاد من لهيبها حادثة (كولومبيا) وما مثلته من تحدِ أمام القوى الأمنية خاصة حادثة عربة قوات الدعم السريع ، واستنفدت كل الوسائل والطرق لتسوية الخلاف بين الجانبين ، ولم يعد هناك حجاب يحجب الأهداف المعلنة والحقيقية للمنابر التي كانت تتحدث كل يوم في أرض الاعتصام منددة بالعسكريين والقوات النظامية وفي مقدمتها قوات الدعم السريع وقائدها ، زد على ذلك أن وراء قرار الفض محمولات سياسية أخرى إرتأى المجلس العسكري أن ينقلها إلى المربع الجديد الذي حدده .
وكان الفجر الشاحب في يوم فض الاعتصام يشير إلى ضمور التوافق السياسي بين مكوني الشراكة التي كانت متوقعة ، وخفوت أي أمل في الالتقاء من جديد ، وبطبيعة الحال وللأسف خلفت الأحداث عدداً كبيراً من الضحايا وسط المعتصمين ومن القوات التي قامت بعملية فض الاعتصام ، وقبل أن تُلقى الاتهامات قال رئيس المجلس العسكري في خطابه أن تحقيقاً قد تم التوجيه به وتم تشكيل لجنة من النيابة وشرعت في الاستجواب وطالبت قوى الحرية والتغيير بتحقيق مماثل وزادت عليه بأن يكون تحقيقاً دولياً ، وأضحى تحمل المسؤولية في ما حدث من شروط استئناف التحاور مرة أخرى .
زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي
بعد يوم واحد من صدور قرار من مجلس السلم والأمن الأفريقي بتعليق نشاط السودان في الاتحاد الأفريقي ، تم الترتيب بسرعة لزيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد للخرطوم التي كان سماؤها ولم تزل ملبدة بالغيوم وأعمدة الدخان ، وكان واضحاً منذ البداية في زيارة كبير إثيوبيا ، أنها تتعدى محاولة استكشاف الأوضاع وتحسسها عن قرب ، إلى الدخول في لباب الخلاف بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير ، ويبدو أنه على عجل تم ترتيب هذه الزيارة والغرض منها حيث لم يعلن رئيس الوزراء الإثيوبي قبلها أية نية للوساطة أو التدخل في القضية السودانية ، فلا أبدى الرغبة خلال زيارة رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن، لأديس أبابا نهاية مايو الماضي ولا صدر عن مكتبه أو عنه تصريحات تنبئ عن نية التوسط ، وانخرط السيد آبي أحمد فور وصوله الخرطوم في يوم عمل طويل بدأه بلقاء البرهان والمجلس العسكري، ثم لقاء أول مع كتلة الحرية والتغيير، ولقاءات مع قيادات سياسية مثل الدكتور علي الحاج الأمين العام للمؤتمر الشعبي، والدكتور التجاني سيسي رئيس حزب التحرير والعدالة، وقيادات حركة الإصلاح الآن، وفصائل من الاتحادي الديمقراطي المعارض، واختتم زيارته بلقاء ثان مع قوى إعلان الحرية والتغيير .
وحيث إنما توصل إليه رئيس الوزراء الاثيوبي هو محل تقييم وتحليل ، فإن الوساطة الإثيوبية خاصة في بيان رئيس الوزراء أشارت إلى استماعه لكل الأطراف وتوفره على تفاصيل المشهد السياسي واللاعبين فيه ومواقفهم المختلفة وحججهم المتناظرة ، لكن المؤكد أن السيد )آبي أحمد (لم يقدم وصفة جاهزة ولا مقترحات لأي طرف ، كان مستمعاً جيداً ودقيق الملاحظة في تعليقاته التي لم تخرج من إطارها الدبلوماسي ومقتضى الوقوف على مسافة واحدة من الجميع ، وسيكون عليه بعد أن رأى وسمع أن يمضي بوساطته إلى نهاياتها حتى يتحقق ما يصبو إليه الإقليم خاصة هيئة الايقاد التي أخذ منها تفويضاً، والاتحاد الأفريقي الذي يُمكن أن يُبطل قراره بتكوين حكومة وجهاز تنفيذي مدني .
وبعيداً عن ما قيل ويقال حول هذه الوساطة وقدرتها على إرجاع أطراف العملية السياسية إلى طاولة التحاور دون استثناء أو إقصاء لأحد عدا المؤتمر الوطني الذي لا يرغب هو بنفسه في الظهور على سطح ترتيبات المرحلة الانتقالية ، وما ينعكس منها على المنطقة والإقليم ، فإن التحرك الإثيوبي يطرح عديد الأسئلة حول غياب قوى إقليمية أخرى عن المساهمة في حل المشكل السوداني، علماً أن رئيس الوزراء الإثيوبي حذّر بشدة من تدخلات خارجية في شأن السودان مشيراً إلى أن السودانيين يحملونهم بلدهم أكثر من غيرهم .