كتب: سراج الدين مصطفى 22فبراير2022م
الطموح والرغبة:
الطموح والرغبة في الارتقاء لا يتقيّدان بحواجز وهواجس العمر.. والتكوين العصامي من شأنه أن يكسر كل تلك القيود ويحرر صاحبها لينطلق في فضاءات رحبة وشاسعة.. ولعل البروفيسور الراحل (قريب محمد راجع) هو واحد من تلك النماذج المُلهمة التي تستحق الوقفة بكل قوة ليتأمّل الناس تفاصيل وكيف لإنسان بسيط تدرج الى أعلى الدرجات الحياتية والأكاديمية.
راعي الغنم:
كان راعياً للغنم ولم يلتحق بمدرسة حتى بلوغه سن الخمسين، وعمل خفيراً بجامعة أم درمان الإسلامية، ثم – يا للعجب – دخلها أستاذاً وعيناه تنظران بكل فخر وإعزاز إلى كرسي الخفير الذي رفعه الى مقام الأستاذية.. وكما قال عنه الصحفي الراحل والمحامي أسعد الطيب العباسي “إنها قصة نجاح باهرة ونادرة لهذا الشاعر المُسن صاحب الذهن المتقد والطموح اللا محدود”. وقبل أن نتعرّض لهذه القصّة المُعجزة وهذا النجاح المُدهش لهذا الشاعر الذي طَرَقَ أبواب المُستحيل طرقاً عنيفاً وأحاله إلى واقعٍ ملموسٍ يلهم العِبر والدُّروس، نود أن نذكر أن لهذا الخفير قصة نجاح أُخرى وفذة حققها قبل أن يحقق معجزته هذه.
صاحب مواهب متعددة:
فقد كان وما زال هذا الرجل مُلهماً وصاحب مواهب متعددة وملكة شعرية كبيرة، ولم يقف عمله الشاق حجر عثرة أمامه، ولم يكن ليشعر أبداً وهو العامل البسيط بين طلاب العلم بعقدة الدونية، إنما أسلمه تصميمه لأحاسيس الندية والتفوق، فأخذ ينقب في خياله ويستوحي الصور فيحيلها إلى قصص رائعة سرعان ما تلقفتها الإذاعة السودانية لتجعل منها مسلسلات ذاع صيتها وجذبت المستمعين وبقيت في وجداننا لآمادٍ طويلة ولم تزل ذكراها تجلجل في ذاكرتنا إلى الآن.. فمن منا لا يذكر مسلسلات (حظ أم زين) و(الهمباتة) و(عشا البايتات) و(غرام زينوبة) و(أنا أمك يا سند) و(البراق) و(عقدة الثأر) و(الخمجان (و(عودة الخمجان).
المسلسلات التسعة:
هذه المسلسلات التسعة التي ألفها قِرَيِّبْ هذا العامل البسيط وبثتها الإذاعة صاحبتها أشعار صاغها هذا الخفير المُجتهد، فمن منا لم يستمتع بها، ومن منا لم يهز رأسه إعجاباً بها، وقد اتّخذ اللغة العامية والمفردة البدوية أداةً لهذا الإبداع الشعري والدوبيت إطاراً لتراكيبه وأساليبه الفنية مستفيداً من مُعاصرته لشعراء الدوبيت المتقدمين، حينما بلغ الدوبيت كمال نضجه الفني, واستزاد من فهمه لشؤون البادية وطبائع الأعراب فيها بفضل نبوغه واستيعابه العالي لتجارب الآخرين.
تخريج أحاديث أبي ذر الغفاري:
الأستاذ محمد التجاني عمر قش توقّف أيضاً في قصة البروفيسور (قريب محمد راجع) قصة رحيل وارتحال مدهشة رواها الدكتور قريب محمد راجع سطرها بكفاحه.. فقد بدأ حياته «خفيراً» بجامعة أم درمان الإسلامية وعمل مثابراً حتى دخل الجامعة في سن الـ«54».. وكان أول طالب يجري رسالة ماجستير في مجال علوم الحديث بعنوان «تخريج أحاديث أبي ذر الغفاري في مسند الإمام أحمد»، ناقشها وكيل الأزهر الشريف دكتور الحسين عبد المجيد هاشم.
دخول الجامعة:
وفي حوار له قبل رحيله قال قريب محمد راجع (إنّ الأستاذ بشير أحمد الترابي هو من وجّهه ودفعه لدخول الجامعة عندما كان طالباً بالداخلية التي كان يعمل بها خفيراً).. ولدت في قرية «معافا» عام 1920م وتنقلت بين قريتي ومدينة بارا.. دخلت الخلوة وكانت بمثابة الروضة وقتها وكان عمري «7» سنوات وتعلمت القراءة والكتابة على الرمال.
الرحيل إلى أم درمان:
في العام 1965م كان جد أولادي مريضاً بمستشفى أم درمان وتركت العمل وأتيت للجلوس معه ورعايته، وكانت رحلة عبر السكة حديد من مدينة الأبيض لأم درمان، وبعد أيام قلائل اضطررت للعمل لجلب المال وعملت في مجال البناء وهيّأت لي الظروف الانتقال للعمل خفيراً بجامعة أم درمان الإسلامية، وكنت أجيد القراءة والكتابة وكنت أعتني بالطلبة وأطبخ لهم، واكتشفوا مقدراتي وعلمي، فقد كنت أقوم بتصويبهم في دروسهم ووجدت أن كل ما درسته على يد شيخي في الحلقة في بارا كانوا يدرسونه هم في الجامعة، وأتيحت لي الفرصة لمزيد من العلم.
سيناريو المسلسلات:
وكنت أستمع للراديو وكان لديّ متسع من الوقت حيث تعلمت كتابة سيناريوهات المسلسلات الإذاعية، وأعددت عدداً من الحلقات وطلب مني التلاميذ توظيف علمي بدخول معهد أم درمان العلمي فدخلت.. وأخذ أحد الطلاب حلقات «الهمباتة ورعاة الإبل» وفيها بعض أشعاري إلى الإذاعة، ورآها الأستاذ أمين محمد أحمد وطلبني وأجازها.. وطالبوني بالمزيد.. كانت تلك الفترة تعج بالأعمال الدرامية البسيطة التي تحكي أحوال المدينة وعملي كان يحكي عن البادية، وكتبت بعدها (حظ أم زين)، (عشا البايتات)، (غرام زينوبة) وتوالت لمدة 3 سنوات و(البراق)، (أنا أمك يا سند)، (عقدة الثأر) و(الخمجان).
في حضرة وكيل الأزهر:
ويحكي قريب محمد راجع ويقول (ذهبت لمعهد أم درمان العلمي بعد معاناة وعاونني الأستاذ محمد سر الختم وحزت شهادة الإجازة.. وحقاً لم أكن أحلم بالجامعة، وبعدها تم اعتمادي طالباً في الجامعة وبعد تخرجي واصلت عملي (خفيراً) لعدم وجود شواغر، وطالب الأستاذ كامل الباقر مؤسس الجامعة بتغيير وظيفتي إلى مساعد إداري شؤون العاملين منذ عام (78) وحتى (80)، والتحقت بالدراسات العليا وتحصلت على تقدير امتياز وبعدها نلت الدكتوراه بعنوان (دراسة وتخريج كتاب التوحيد)، وكان الماجستير بحضور وكيل الأزهر الشريف.