منى أبوزيد تكتب : خذو الحكمة
19فبراير2022م
“كل جروح الكرامة یصیب بھا المرء نفسه بنفسه”.. أندرو كارنجي..!
كانت “نعمات” فتاة ریفیة فالحة، لها عینان عسلیتان، ووجه أصفر مشرب بحمرة آثار كریمات التفتیح، وكان أجمل ما فیھا تناقض خشونة شعرھا، مع نعومة أھدابھا البنیَّة، المُقوَّسة، الكثیفة.. قدمت إلى بیتنا ــ قبل سنوات ــ لتحل محلّ صبیة ھزیلة، صامتة كالأسماك، لا تتحدّث إلا الأمھریة ومع أھلھا، وعبر الھاتف فقط، فكانت حیویة الوافدة الجدیدة بمثابة طوق نجاة من محیط الصمت في بیت بلا أولاد..!
سرعان ما سیطرت “نعمات” على خیاراتي وصادرت أوامري، وانتزعت موافقتي على التنازل عن بعض فساتیني وأحذیتي الفائضة عن حاجتي، وعن طیب خاطر..!
وعندما زارتني أمي یوماً ورأتني منھمكة في معاونتھا على التأنُّق والتجمُّل لحضور عرس إحدى صدیقاتھا، رفعت یدیھا إلى السماء تستنجد بخالقھا من عباطة ابنتھا التي تخدم الشغالات.. ومن یومھا وقر في قلبي أنني ست بیت عبیطة مع الشغالات، إلى أن قرأتُ لأحلام مستغانمي في كتابھا “نسیان كوم” حكایة مشابھة مع الشغالة، فأیقنتُ أن النساء الثائرات على مثالب واقعھن، متشابھات وإن اختلفن..!
كان لعزیزتي “نعمات” خطیب مراوغ اسمه “أحمد”، وقد كان كثیر الإعجاب بشبابه، من النوع الذي یستكثر نفسه على فتاة واحدة. وكلما تزیَّنت “نعمات” وخرجت لملاقاته ــ آخر الأسبوع ــ عادت بوجه مشرق، وعینین تبرقان بیقین الحب..!
إلى أن جاءت ظھیرة كئیبة جلست فیھا الشغالة العاشقة، بجانبي على طاولة المطبخ، تبكي بحرقة خیانة خطیبھا الذي ضبطته متلبساً بعلاقة غامضة مع فتاة لعوب. رأتھما بأم عینیھا وھما یتھامسان، وسمعتھما بأذنیھا یتبادلان أحادیث العشاق في إحدى الحدائق..!
أحزنني كثیراً ــ یومھا ــ بكاء قلبھا المفطور على رجل خائن، فتبرعت لھا ــ كعادتي ــ بمحاضرة تبسیطیة لنظریاتي الخطیرة بشأن “حركات” الرجال. حثثتُھا باستماتة على إخراج الھواء الساخن من صدرھا، فصبَّتْ جام غضبھا على الحبیب الخائن، وتمادت في الغضب وأخذت ترغي وتزبد، حتى خشیتُ علیھا، أو خشیتُ علیه منھا..!
وبینما نحن على حالنا ذاك، قطع حوارنا رنین الھاتف، رفعتُ السماعة بتثاقل، فإذا به بذات الصوت المُتفاخر، عالي النَّبرات، یطلب الحدیث إلى خطیبته التي كانت قد تسللت واقفة خلفي، وكأن قلبھا حدثھا بمكالمته.. فما الذي حدث للحبیب الخائن..؟!
رمشتْ “نعمات” بأجفانھا المقوسة في دلال، وھي تھمس بعبارات الترحیب ھمساً، مطوِّحةً بغضبتنا المشتركة ــ ھي وأنا! ــ إلى أقرب سَھَلة.. بینما وقفتُ أرقبھا في ذھول وھي تخاطبه قائلة في لھجة أقرب إلى الدلع منھا إلى العتاب: “أنا زعلانة منك”..!
“ما مشكلة أي راجل بیتصلح”، ھكذا أخرست اعتراضاتي وھي تبتسم وكأنھا لم تكن تبكي. وھكذا أیضاً، خاضت “نعمات” منافسة شرسة مع الفتاة اللعوب، وانتزعت أحمد من براثنھا، وتمكَّنت من إعادته سالما بكل غروره، وصلفه، وأنانیته إلى حظیرة حبھا..!
رأیتُ” نعمات” آخر مرة قبل ذھابي إلى الحج. بعدھا رحلتْ ھي إلى بیت “أحمد” والتحقَت ــ كما قلتُ ــ بركب الزوجات الخانعات المباركات، وتركتني – بعد عودتي – أسدّد دیونھا الخفیَّة المتراكمة عند أصحاب البقالات المجاورة..!
لكنھا ــ رغم كل شيء ــ أھدتني خبرة حیاتیة ثمینة، حرَّضتني على إعادة تقییم نظریات نسائیة كنت أظنھا ألمعیة، ومن یومھا، كلما رأیتُ امرأة صابرة على طبائع رجل، تذكرتُ الحكمة الأنثویة الذھبیة “الراجل ــ أيّ راجل ــ بیتصلَّح”..!