لكل زمانٍ في يديه زمامٌ!!
“أ”
يغرق قلبه في النور، وهو في تلافيف الظلمة بين دثورها وأوراقها، يشعر بأن نبضه يشتعل كما النار في حريق دمه الفسفوري، وهو في أعلى قمم صفوه وهدوئه وسكينته التي بلا بداية ولا نهاية.
يضرب كفاً بكف كلما انتبه إلى بصيص من التعلق بالحياة، حاول اجتياح أسوار قلبه وجاس خلال نفسه الواسعة .. يستغرب كيف تسلل هذا البصيص وهو الذي ودع الدنيا والناس وراء ظهره، وترك كل ما في الدنيا من رغبات لمن يتنافسوها كما تنافسوها!!
كانت هيبة الدجى وسدوف الليل تجعل كل فياح فؤاده تتوامض كما البروق في السهوب الشواسع.. والقلب منه مثل نسر الشاعر العراقي الكبير محمد المهدي الجواهري:
تلامع في عرض الأثير نجومه
كأن الدجى صدرهن مطامع
رعيت به الآمال والنسر طائر
إلى أن تبدى الفجر والنسر واقع
“ب”
في هدأة ليل من ليالي الشتاء الطويلة منتصف ثمانينيات القرن الماضي.. وقد سكبت آخر نجمة دمعة من أعينها المسهدة في قصعة الغسق، كان رجل بسيط من أحد الأحياء الفقيرة في مدينة نيالا، يضع الدنيا كلها في مذبلة اهتماماته ويركلها بعيداً بعد أن عرف الطريق نحو السماء.
غاص طويلاً في بحر الحياة، جمَّرته التجاريب والحياة، سلخت الأيام والسنون عمره، تقوَّس ظهره كعود من الجميز ذوى وجف ومال.. انطفأ كل شيء في جسده إلا قلبه يتوهج كمشعل ثائر لا يموت.. أو كتقابة مسيد كبير تشتعل ناره ولا ضفة لنار ما دام نهر الحطب ينهمر من بين أيدي الحيران الدافقة.
انطوى ويبس منه الجلد حتى تجشأ حزماً من التجاعيد على عظامه، مثل قربة ماء فارغة علقت طويلاً في نهارات قائظة يبست على عودها وبدت كأنها من جلد شاة صغيرة عجفاء وليست نتاج خروف كباشي ضخم.
توكأ على عكازة الظلام، حين وجد الشمس والقمر والليل والنهار سيان، توضأ من ينابيع علوية بعيدة تنهمر من مضارب النجوم، لا شيء عنده يضاهي تلك الحالة التي يعيشها، وتجعله يعيش بقلبه وأسرار روحه كأنه يمتلك الدنيا التي لم تعطه ما أراده على استحياء، فغفل عنها عندما تحقق في الحقيقة بأن الأشياء هي الأشياء، وطفق يبحث عن الشيء واللاشيء، حتى وجد أن مضغة في جوفه أوسع من الدنيا وما فيها.. حين يكون وحين يقول وحين يجول.. وهو مؤمن!!
“ت”
في ليالي الشتاء الطويلة.. في الثاني من ربيع الأول من تلك الأيام في مدينة نيالا .. كان يأتي برفق كما الشعاع والضوء والظلال .. بلا جلبة أو ضجة أو وقع أقدام، كالهابط من الفضاء في ساحة المولد الفسيحة أمام مستشفى نيالا الملكي بعمرانه العتيق، يمر بالسرادق المنصوبة للطرق الصوفية المختلفة الألوان والأشكال والسحن والملامح والمديح، يسمع إنشاد القصيد والمديح النبوي وضربات النوبة ويتجول في حلقات الذكر، يجلس قابعاً في أطراف الخيام المزركشة، يشاهد المارين في زحام والغارقين في هيام.. الأطفال في هياجهم وانجذابهم الطفولي بعرائس الحلوى، والنساء في حريرهن وزاهي ثيابهن ورنين حديثهن كما الحمائم في سجعهن، الرجال في بيض الجلابيب والعمائم، يتراصون في السرادق ويتجمهرون أمام باعة حلوى المولد والحديث كما النسائم.
وتأتي فتيات فقيرات من أقصى المدينة يسعين وراء بريق المصابيح الكهربائية والأضواء الكاشفة، تدفعهن رغبة الحياة الزاهية في ملامسة تلك الهالة البراقة المضيئة لعالم لا يدرين عنه شيئاً، وقد ملأت تلك المشاهد كل فجاج الخيال في نفوسهن البريئة، وأرجلهن المدهونة بزيت رخيص قد تغبرت بغبار أثارته رقصات الدراويش وكثرة الأرجل المتجولة في ساحة المولد في تلك الليلة ذات السر العجيب.. وصوت للفيتوري:
لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا
لن تعرفنا ما لم نخبرك فتعرفنا
وتكاشفنا
أدنى ما فينا
قد يعلونا يا ياقوت
فكن الأدنى.. تكن الأعلى فينا
وتجف مياه البحر
وتقطع هجرتها أسراب الطير
والغربال المثقوب على كتفيك
وحزنك فى عينيك جبال
ومقادير وأجيال
يا محبوبي لا تبكيني
يكفيك ويكفيني
فالحزن الأكبر ليس يقال
“ث”
كان ذلك المشهد يمد أشرعته للرجل القابع في ظل سرادق عظيم، لاهياً بالنظر إلى الرايات والألوان التي تنضح، عيناه تجولان في الفضاء المزدحم بذرات النقع والغبار .. والرايات الخضر والحمر الملونة تتراقص ولهى وهي في خاصرة الظلام.. كأنه كان يبحث بعينيه عن السلم الذي ينقله إلى أعلى السماء.. وكأنه نثر جماناً وجواهر على الدرب المفضي به إلى تلك المراقي العلا.
اقتربنا منه في تلك الساعة وكنا نعرفه قبل سنوات خلون منذ طفولتنا، نراه في ليالي المولد، حين يدلف إلى باحات تلك الحالة العرفانية النادرة.
نظر إلينا في عطف وهو قد تجاوز الثمانين تقريباً من سني عمره.. لم تخط يد الأيام على وجهه إلا أقسى أحكامها وأمرّ توقيعاتها، جلسنا على مقربة منه.. لاحظنا أنه لم يأتِ مثلنا ليحتفل بالمولد النبوي الشريف على طريقتنا وكسائر الخلائق في المكان الذي سبح في ينبوع نور!!
كان له حديث خفيض لا يمكن تبين ملامحه ومسامعه، يخاطب نفسه وتصحو نجمة في مدارات بعيدة.. لهذا الهمس العجيب .. وأثير الليل المشرب بضوء المصابيح في الليلة النورانية.. كأنه يضع على جبين تلك النجمة أكليلاً من لجين!!
جاء من طرف الساحة الغربي، رجل يرتدي جبة رمادية اللون ويعتمر عمامة صغيرة لف جزءاً منها حول عنقه، يقتفي أثر الرجل القابع في ظل السرادق.
قال في ما يشبه المناجاة حين وصل إليه: اعطنا الفاتحة في هذا اليوم المبارك؟.
تبادلنا نظرات غامضة وأشاح الرجل الثمانيني بعينيه عن الرجل ذي الجبة الرمادية، وانصرف الأخير بهدوء كما ترحل سحابة صيفية رقيقة الحشا ضامرة.
ذهبنا نتبع الرجل ذي الجبة الرمادية والعمامة الصغيرة الملتف جزء منها حول عنقه، توقف أمام خيمة لطريقة صوفية ودخل وجلس وسط الذاكرين.. جلسنا خلفه وفتشنا عن مدخل للحديث وجدناه بعد توقف هزيم النوبة الصاخبة.
سألناه عن الرجل العجيب الذي طلب منه الدعاء والفاتحة.. تغيرت ملامح الرجل ذي الجبة الرمادية .. وقال وهو معلق النظرات في أعلى سارية الراية ومن خلفها الفضاء العريض: “هذا الرجل عجيب.. كان صائداً في الأربعينيات والخمسينيات للأفيال في أقصى اتجاه الجنوب من هذه الديار.. جمع مالاً وفيراً من تجارة العاج .. سافر لديار عديدة داخل وخارج السودان.. عاش حياته كما يشتهي كل ذي شباب ومال.. وقبل خمس وعشرين سنة من اليوم أصرَّ عليه بعض أهله ومعارفه أن يحج أو يعتمر فهو ذو يسار ومال، وكان يتحجج بحجج واهية، فمرض مرضاً شديداً ويئس منه عواده وأهله وعافته الناس وعاف هو الدنيا، لكنه شفي بفضل من الله، فأول ما فعله حج بيت الله الحرام.. وأقسم مع نفسه أنه في بقعة وُلد فيها الرسول الكريم لم يعش حياته كما كان، وتضرع لله بطول العمر حتى ينفقه في طاعته وحمده، عاد وصار ينفق كل ما جمع وطلق الدنيا والحياة التي كانت كل لذائذها طوع بنانه.. وسكن الفلوات البعيدة ونسيه كثير من الناس.. وعاد للمدينة وسكن أطرافها.. لم يعرفه فيهم أحد إلا القليل.. هو عابد خاشع القلب ودعوته مستجابة.. ولدي الكثير لأقوله عنه لكن ليس الآن”.
أسرعنا لمكان الرجل وراء ظل أحد السرادق والخيام .. النوبات تئن في ضرامها، والناس في زحامها، والنساء في كلامها، وعرائس الحلوى في احتشامها، والأطفال في غرامها، وأرجل الفتيات المدهنات في التراب لجامها.
لم نجده هناك.. كأنه تبخر في الهواء وحملته نسمة إلى حيث السلم المفضي للسماء في تلك الليلة.. كانت القلوب في عروج والعيون في بروج والنفوس تعتلي من الضوء سروجاً.