وفشل الإضراب
الدرس الذي لقّنه الشعب السوداني والعاملون في كل مُؤسّسات ومَرافق الدولة، لقوى الحرية والتغيير وما يُسمى بتجمُّع المهنيين، هو الدرس الأبلغ والأشد قَسوةً عليهم، فقد أفشل الوعي الشعبي والحس الوطني الأصيل والقوي، الإضراب الذي أعلنته هذه التّنظيمات السِّياسيَّة اليسارية وواجهاتها المُتعدِّدة وسخّرت له شبكات التراسُل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، لكنه باء بفشلٍ وغضبٍ من الشعب الذي كان أكثر إدراكاً لمخاطر مثل هذه الإضرابات غير القانونية، وكان في قمّة المسؤولية الوطنية حين جعل من الإضراب أضحوكة تسلّى بها الناس في نهاية النهار وعلى موائد الإفطار.
لقد كَان هناك إضرابٌ حقيقيٌّ وعارمٌ، لكنه سطَع فقط في الخيال الإسفيري وفِي المنصّات الإلكترونية وفِي الرسائل التّطمينية التّعويضية للداعين إليه، لم يكن له وجودٌ في الواقع، ولَم تتأثّر به الحياة أو تشل حركة المؤسسات الحكومية والخاصّة، نفرٌ ضئيلٌ وبعضهم من غير العاملين كالأطفال والمُراهقين، هم من حملوا اللافتات الورقية التي تشبه الطائرات الورقية التي يلهو بها الصبية الصغار في لعبهم، ووقفوا أمام بعض المؤسسات الخاصة والعامة في مناظر خجولة، يعلنون للعالم أنّ إضراباً مثل الإعصار دهم السودان، وكل من رأي ذلك المنظر ضحك ملء شدقيه على العقل السِّياسي الهزيل الذي يعرض مسرحية هزلية في عرض الشارع السياسي بلا جمهورٍ ونظارة تتابع المشاهد العبثية الباهتة.
أما لماذا فَشَلَ الإضراب؟ فالإجابة الوحيدة والبدهية التي ترد على خاطر كل مُتابع، أنّ الفكرة الداعية للإضراب نفسها لم تكن ناضجة، فالقُوى التي دَعت لها، ظنّت أن بفعل الزخم الثوري تستطيع أن تقود إضراباً ضد طرف رئيس هو الذي صنع التغيير نفسه، فالقوات المسلحة والدعم السريع والقوات النظامية الأخرى هي التي صنعت التغيير، ويسّرت إزاحة النظام السابق، فتحقيق أهداف التغيير لن يتحقّق إلا بتضامُن أطرافه جميعاً وتعاوُن كل الأطراف، فكيف بالله فكّرت قوى الحُرية والتّغيير في عزل القوات النظامية وشطب وكشط دورها بجرة قلم والعمل جهراً على إبعادها وإرجاعها إلى ثكناتها، واستلام السُّلطة بالكامل منها خلال الفترة الانتقالية؟ ولما تعثّر ذلك من خلال التفاوُض بين المجلس العسكري وفصيل الحُرية والتّغيير، حاول هذا التّحالُف الهَش المُتنافِر أن يُحرِّك الإضراب ويدعو له ظنّاً وهذا الظن آثم لا محالة، أنّ سلاح الإضراب سيسقط المجلس العسكري وينهي دوره.
لكن النتيجة كان واضحة، اتّضح أنّ الإضراب ليس وراءه إلا حفنة من المُوظّفين في بعض المواقع، لم يستطيعوا حتى إقناع زملائهم، حَملوا أوراق الـ A4 ورفعوها لبرهة أمام عدسات الكاميرات والهواتف النقّالة، ثُمّ عادوا أدراجهم لصرف رواتبهم وفِي انتظار منح العيد، لينتهي اليوم الأول كما بدأ من النقطة الصفرية، أو بالأحرى كانوا في متاهةٍ دائريةٍ عادوا إلى حيث المُبتدأ..!
كل من رأي الإضراب يوم أمس أيقن أنّ قُوى الحرية والتغيير بحثت عن حتفها بأظلافها، وعلى نفسها جَنَت كما فعلت براقش، فلا حَقّقَ الإضراب الهزيل هدفاً، ولا أضعف عزم المجلس العسكري، ولا تعاطف معه الشعب ولا انخرط فيه قطاع العاملين، والأعجب من ذلك أنّ الكذب على الجماهير وإيهامها بنجاح الإضراب، فاقم من الورطة التي أدخل فيها تحالُف الحرية والتغيير نفسه ومعه التابع ما يسمى بتجمُّع المهنيين، ولذلك نحن نُطالب المجلس العسكري بالإبقاء على هذا التحالُف نابضاً وعلى قيد الحياة وأن يدعمه ليبقى، لأنّه أفضل وسيلة لحشد تأييد الشعب السُّوداني لخطوات المجلس العسكري، وهم أنجع طريقة لتنفير السُّودانيين وإبعادهم عن الأحزاب اليسارية، وخاصّةً الحزب الشيوعي الذي يتجرّع مرارة الحنظل بعد فشله المريع في إلهام الجماهير وتعبيد طريقها إلى ديكتاتورية البروليتاريا ..