الخرطوم: الصيحة
انحبست الأنفاس طوال خمسة أيام من الترقُّب، اتجهت فيها كل الأنظار إلى بقعة ربما لم يسمع بها الكثيرون في ضواحي مدينة شفشاون شمال المغرب، إذ جاءت مأساة الطفل “ريّان أورام” بمثابة منبه عملاق للضمير الإنساني، فما بين إعلان سقوطه داخل بئر بعُمق (32) متراً، وترقب نجاته سالماً، وبين رحيله المؤلم، منح العالم بأسره أوقاتاً للتأمُّل واختبار المشاعر الإنسانية الصادقة والحقيقية.
منذ الثلاثاء الماضي، يكفي أن تقول “الطفل المغربي ريّان” لتدرك حجم التعاطف الذي حصده ابن الخمس سنوات، ومقدار المشاعر المشتركة التي وحّدها حدثٌ لم يكن على بال أحد.
الطفل الراحل “ريّان” أفلح في أن يصبح بعمره الصغير ومأساته المؤلمة أيقونة للألم والوحدة والمشاعر الجامعة بين العرب من المُحيط إلى الخليج، بل وحتى خارج العالم العربي، فقد ارتسمت صورته البريئة على مواقع التواصل الاجتماعي بلغات العالم المختلفة، وأصبح ملهماً للمبدعين نثراً وشعراً ورسماً وتلويناً.
الملمح الأبرز في قلب هذه المأساة والمعاناة الطاجة بالرسائل والعبر، هو “الملحمة المغاربية” التي تجسّدت فعلاً واقعاً، حتى أنك لتشعر أن “ريّان” هو ابن كل مغربي ومغربية، بدءاً من جلالة الملك محمد السادس وحتى آخر أبناء الشعب.
الاهتمام والعناية الملكية اللصيقة والتتبع الشخصي لجلالة الملك لحادثة الملاك البريء “ريّان” لم تكن غريبة على قائد البلاد، وإنما رسّخت مفهوم الراعي الصالح المهموم بشؤون الرعية، يشاطرهم أفراحهم وأحزانهم وآهاتهم، فقد ظلت متابعة الملك محمد السادس الشخصية للأمر تلفت الانتباه وتثير الإعجاب.
لم يألُ جلالة الملك والحكومة جهداً في توفير كل الممكن في سبيل إنقاذ حياة الطفل “ريّان”، ومثّلت عملية إنقاذه التي استمرّت أياماً بلياليها، ملحمة إنسانية باذخة بذلت فيها حكومة المغرب كل ما استطاعت من أفراد وأدوات ومعينات، فَضْلاً عن المتطوعين والمُؤازرين الذين تحدّوا الليالي الباردة انتظاراً للنهاية السعيدة.
الاستجابة للحادثة، احتاجت إمكانيات عالية وتخطيطاً خاصاً، وتضمّنت تكليف فريق عمل مُكوّن من خُبراء ومُهندسين ومُساعدين وغيرهم، وتم خلالها توفير إمكانيات تقنية ولوجستية ضخمة رغم وعورة المسالك باعتبار أنّ المنطقة جبلية معزولة ومُغطاة بغابات كثيفة، لكن الحكومة المغربية وعلى رأسها جلالة الملك لم تبخل بشيء وكان همّها الأوحد هو إنقاذ الطفل وإسعاد والديه، في لفتة تحكي عظمة شعور الحاكم بالمحكومين ومعايشة مصابهم.
عملية الإنقاذ الصعبة، احتاجت أكثر من مجرد توفير الخبراء والتقنيات والمعينات، فصُعوبة التضاريس وخُطورة المُهمّة، احتاجت كذلك إلى تدبير حكيم للأزمة من جانب السلطات المغربية، بحيث لا يحدث أي عارض أو حادث لفريق العمل ولا للحاضرين الذين أبوا إلا أن يكونوا لصيقين بكل لحظة في العملية المُعقّدة، وقد كان وأفلح التدبير المُحكم في عدم حدوث أي عارض حتى نهاية المهمة الصَّعبة.
لقد كان انصهاراً وتلاحُماً مُثيراً للإعجاب ومُستحقاً للاحترام وكثير التقدير بين الشعب المغربي وقيادته في محنة عنوانها الإنسان، دخلت كل بيت مغربي، وجعلتهم يلهجون بالدعاء أن تتكلّل الجهود بالنجاح المأمول، وضجّت ألسنتهم بالثناء والشكر للقيادة التي استجابت لمُصاب الأسرة المكلومة حتى اللحظة الأخيرة.
قصة الملاك “ريّان” لامست كل ضمير إنساني، وربما أحيت قلوباً ران عليها إيقاع الحياة السريع وأسقط عنها الاهتمام بالآخر، فردود الفعل الإنسانية والتعاطف والتضامن العربي والعالمي مع أسرة الطفل الراحل والشعب المغربي وحكومته فاقت كل تصور، وأحيت روح التضامن العالمي الحقيقية.
مأساة “ريّان” مُحتشدة بالرسائل وزوايا النظر، ولعب الإعلام بأشكاله التقليدية والحديثة، دوراً مُهمّاً في أن تأخذ هذا الحيِّز من المُتابعة والتعاطف، وكان ملحوظاً الاهتمام والتتبع الحثيث للإعلام العربي والدولي، وتخصيص مُختلف القنوات والفضائيات الكُبرى العربية والعالمية حيِّزاً كبيراً ومُهمّاً لقضية الطفل “ريّان”، حتى أصبحت قصته على كل لسان، وتتم مُتابعتها في كل لحظة.
ومما لا شك فيه، أنه وكما تفاعل العرب والعالم أجمع مع الحادثة، رسم السودانيون حكومة وشعباً لوحً من التفاعُل الصادق والتضامُن الأكيد، جسّدته رسائل المُواساة من أعلى هرم الدولة التي بعثت التعازي لجلالة الملك وأسرة الطفل الفقيد والشعب المغربي، واهتمام الإعلام السوداني ووسائل التواصل الاجتماعي التي اختارت صورة “ريّان” أيقونة للصُّمود والوحدة والمَشَاعِر الجَامِعَة.
رحم الله الفتى “ريّان” وجعله شفيعاً لوالديه وربط على قلبيهما.