أحمد سمي جدو محمد النور يكتب : ترسيم الحدود بين تشاد والسودان وأثره على التداخل السكاني (1 – 5)
الحلقة الأولى
د.
إنّ السودان وتشاد بحكم تطورهما السياسي والاقتصادي والاجتماعي ينتميان إلى مجموعة الدول النامية، التي تتميّز بهشاشة البنيات الاقتصادية، وسيطرة قطاع الزراعة والرعي، وتدني مستوى دخل الفرد. كما يتميّز البلدان ببعض السمات التي تميز مجتمعات الدول النامية، من حيث ضعف الجهاز الإداري، وعدم الاستقرار السياسي، من جراء الحروب الأهلية والصراعات حول السلطة . كما يشترك البلدان في سمات أخرى متعددة هي التعدد العرقي ، والتنوع الثقافي الذي يزخر به كلاهما ، من حيث تعدد اللغات واللهجات المحلية والثقافات والأديان ، والإرث الحضاري وهيمنة الولاءات القبلية . كما أن الحزام الشمالي من البلدين يتميز بشكل عام ، بنفاذ الثقافة العربية الإسلامية ، أما الحزام الجنوبي ، فإن الثقافة المسيحية منتشرة بين مثقفي البلدين ، مضافاً إليها وجود الديانات الأفريقية المحلية.
واستناداً إلى هذا الواقع فإن السودان وتشاد بلدان متجاوران ، بينهما حدود مشتركة يبلغ طولها 1300 كيلو متر مربع ، مضافاً إلى ذلك التواصل الاجتماعي والسكاني المستمر والمشترك بينهما . فهناك العديد من القبائل المشتركة بين البلدين ، يتحكم في علاقاتها التداخل العرقي واللغوي . ومن هذه القبائل – على سبيل المثال لا الحصر – البديات والقرعان والزغاوة ، والتاما والمساليت والتنجر ، والبرقو والقمر والبرنو ، والمحاميد والمسيرية والسلامات والنوايبة ، وبني هلبة ، والماهرية وأولاد راشد وغيرهم . ومن منظور هذا التداخل الإنساني الكبير ، فإن العلاقات الاجتماعية بين السودان وتشاد ، تبدو متطورة ومستمرة ، لأن الحدود السياسية بين البلدين لم تأخذ في الحسبان – وقت ترسيمها – التداخل القبلي والعرقي والثقافي الذي يربط شعوب البلدين بعضهما ببعض ، لدرجة أن بعض القبائل الداخلة في حدود دارفور ، لها أصول وجذور وأواصر قربى داخل تشاد . وبمعنى أدق فإن أغلب قبائل دارفور توجد لها نظائر في تشاد وخاصة في منطقة وداي. وقد توزّعت إلى قسمين: قسم داخل تشاد، وقسم داخل السودان، مثل المساليت والبرقو والتاما، والبديات والقرعان والزغاوة، والقمر والسلامات والمسيرية والنوايبة.
يسعى هذا المقال إلى التعرف على بدايات ترسيم الحدود بين السودان وتشاد
والوقوف على المشاكل الناجمة عن عملية ترسيم الحدود بين البلدين وبيان الأضرار التي ترتّبت على ذلك، كما ويستعرض الفقرة الثانية والرابعة من بروتوكول 1924م، وكيف أنها قد أدت إلى ترسيم الحدود بين البلدين ونادت بضرورة وضع العلامات الثابتة عليها، ومن ثم إبراز الآثار السياسية والاجتماعية التي ترتبت على عملية الترسيم ومدى انعكاس ذلك على القبائل المنتشرة على طول تلك الحدود حتى نتمكن من فهم وتفسير أسباب هجرة بعض القبائل مثل النوايبة والمسيرية والسلامات والترجم إلى دارفور عام 1924م على أثر ترسيم الحدود بين البلدين، وبيان وتوضيح أثر ترسيم الحدود بين السودان وتشاد على التداخل السكاني المنتشر وبكثافة على طول الحدود بين البلدين .والتأكد من أن البروتوكول الذي تم توقيعه في لندن في 10/1/1924م بين فرنسا وإنجلترا ، والخاص بترسيم الحدود بين السودان وتشاد، قد أقام حدوداً إدارية وسياسية ، أدت في الواقع إلى فصل بعض البطون والعشائر عن بعضها البعض ، عن طريق تمزيق كيانها الاجتماعي ، بحيث أبقت على جزء منها في تشاد ، وأدخلت الجُزء الآخر في السودان.
وتبدو أهمية الموضوع، بنظرنا، في أنه يسلط الضوء على عملية ترسيم الحدود بين السودان وتشاد ، في أبعادها السياسية والاجتماعية، وكيف أنها قد أسهمت في بروز بعض المشاكل بين السودان وتشاد، والتي أثّرت سلباً على النواحي الأمنية والاجتماعية في كلا البلدين . وتظهر أهميته كذلك في أنه يستعرض بعض الكيانات القبلية التي اتّخذت من الحدود المشتركة بين السودان وتشاد وطناً لها، وظلّت تؤثر وتتأثّر بما يجري في الدولتين من أحداث سياسية، برزت إلى حيِّز الوجود بعد ترسيم الحدود مُباشرةً، بالإضافة إلى مُحاولة تفسير ظاهرة قابلية المهاجرين من تشاد واستعدادهم للتمازج والانصهار والذوبان في المُجتمع السوداني، الأمر الذي أثّر في بنائه الاجتماعي وتركيبته السكانية بشكل إيجابي، بحيث أصبح السودان وطناً مُشتركاً لعبت فيه الروابط الاجتماعية الدور الحاسم في عملية النسيج الاجتماعي، بحيث أصبح السودان مُستقبلاً وبشكل مُستمر للتنوُّع العرقي واللغوي والثقافي الذي مصدره الجارة تشاد.
بداية ترسيم الحدود بين البلدين:
إن أول إشارة إلى ترسيم الحدود بين وداي (تشاد) وسلطنة دارفور، قد ذكرها محمد بن عمر التونسي عام 1803م قائلاً “…. بأنها الخلاء الكائن بين المملكتين….” والتي تم ترسيمها بموجب معاهدة وقعها السلطان سليمان سولونج 1640-1670م من جانب سلطنة دارفور، والسلطان صليح 1611-1640م من جانب سلطنة وداي . بعد قياس المسافة بينهما بالتساوي، حيث قاما بضرب مسامير كبيرة من الحديد على ثلاث شجرات، باعتبارها الحد الفاصل بين المملكتين، كما أوردت المخابرات المصرية على لسان حامد حمدان، الذي قدم إلى مصر مع الأمير سليم من دارفور بعد الاحتلال التركي المصري لها عام 1874م، ما يفيد بأن “الترجة” هي الحد الذي يفصل دار وداي عن دارفور. وهي – أي الترجة – عبارة عن تل طويل يمتد من الجنوب إلى الشمال، وهناك فتحة وسط هذا التل تمثل الطريق الذي يمر من دارفور إلى وداي، ومن عادة أهل هذه البلاد قديماً أن يقوموا بقفل هذا الطريق بالحجارة في حالات الحرب، ويفتح في حالات السلم، بينما أوردت المخابرات السودانية، ما يفيد بأن هذه الترجة تجري إلى الغرب من “نيرا” وإلى الشرق من بير طويل، لأن وادي أزوم يجري من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي فإنه يقع إلى الغرب من” تنضدبا” وإلى الشرق من الترجة ، على خلاف ما ورد في الخريطة الفرنسية.
أما حدود مملكة وداي ودار تامة، فقد تم تحديدها بواسطة مؤتمر ضم السلطان محمد شريف، سلطان وداي 1834 – 1858م ، وسلطان دار تامة عندما اتفق الطرفان بأن تكون “ترنقا” هي الحد الفاصل بين دار تامة ووداي، وقاموا بوضع حجر كبير عليه كتابة بهذا الخصوص، وهناك علامة أخرى عبارة عن كوم من الحجارة بمنطقة “بورو” التي اعتبرت حداً آخر بين دار تامة ووداي وقد شاهد ذلك الشيخ قدح الدم الذي كان يسكن أم درمان أثناء فترة المهدية، وقد ذكرت بعض وثائق المهدية أن الحدود بين دار تامة ودار برقو “وداي” في مكان يسمى “أم زوير” وأن دار قمر ودار مساليت مُستقلة تماماً عن دار برقو، وأنها تدخل في إدارة سلطان الفور، والشاهد على ذلك خطاب عامل المهدية على دارفور عثمان آدم إلى الخليفة عبد الله بتاريخ 5 سبتمبر 1888م، الذي جاء فيه بأن “الترجة هي الحد الفاصل بين دارفور ووداي”، وأن دار تامة تقع إلى الشرق من الترجة، وأنها على الحدود تماماً.