في العام 2014 وفي إطار حَملتها على الفساد التي تبنّتها وقتئذٍ، نشرت (الصيحة) ملفاً مُسَرّباً، المُتّهم فيه وكيل وزارة العدل وقتها عصام عبد القادر، وتُهمته الاستحواذ على أراضٍ بمليارات الجنيهات في مواقع مُميّزة بالخرطوم إبان إدارته لمصلحة الأراضي، وبدلاً من السعي للاستيثاق من صحة الوثائق المُسَرّبة واتّخاذ إجراءات قانونية ضد الوكيل إذا كَانَ مُذنباً أو ضد الصحيفة والمُوظّف الذي سَرّبَ المُستندات إذا كان الوكيل غير مُذنبٍ والوثائق غير صحيحةٍ، بدلاً من كل ذلك، انحازت وزارة العدل لوكيلها وأمرت بالقبض على المُوظّف بالأراضي “صالح على كوران” بتُهمة تسريب ملفات! ومن ثَمّ خُضع للتعذيب حسبما قيل وطالبوه بالكشف عن المُستندات التي لم تنشر بعد، الأمر الذي حدا ببعضهم لأنّ يقول إنّ الجريمة في عهد الإنقاذ هي (كشف الجريمة)! وفي خواتيم الأسبوع المُنصرم وَرَدَ في الأخبار، أنّ الشرطة ألقت القبض على المُتّهم بتصوير وتسريب الصفحة الأولى من جواز رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية في عهد حكومة الإنقاذ معتز موسى، وقد علمت (الصيحة) أنه سيُخضع لمُحاسبة داخلية.
الخرطوم: هويدا حمزة
ويكيليكس
عالمياً ظهر (ويكيليكس) كأشهر موقع لتسريب المُستندات، وويكيليكس تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصّة والسِّريِّة من مصادر صحفية وتسريبات إخبارية مجهولة.. ودشّن الموقع على الإنترنت في 2006 كمنظمة سن شاين الصحفية وحسب معلومات استقيناها من الإنترنت كما هي، فقد قالت المنظمة إنّها تملك قاعدة بيانات لأكثر من 1.2 مليون وثيقة خلال سنة من ظهورها.
في أبريل 2010، نشرت ويكيليكس على موقع إنترنت يسمى Collateral Murder مشهد فيديو عن ضربة الطائرة في 2007 التي قتلت فيها قُوّات أمريكية، مجموعة من المدنيين العراقيين والصحفيين.. وبعدها في يوليو سرّبت ويكيليكس يوميات الحرب الأفغانية، وهي مجموعة لأكثر من 76900 وثيقة حول الحرب بأفغانستان لم تكن مُتاحة للمُراجعة العَامّة من قبل، ثُمّ سَرّبت في أكتوبر 2010 مجموعة من 400000 وثيقة فيما يسمى سجلات حرب العراق بالتنسيق مع المُؤسّسات الإعلامية التجارية الكُبرى. حيث سَمَحت تلك بإعطاء فكرة عن كل وفاة داخل العراق وعلى الحُدُود مع إيران.. وفي نوفمبر 2010 بدأت ويكيليكس بالإفراج عن برقيات الدبلوماسية للخارجية الأمريكية.
ترهيب ويكيليكس
وفي عام 2010، وضعت “الديلي نيوز النيويوركية”، ويكيليكس الأولى من بين المواقع “التي يُمكن أن تُغيِّر الأخبار بالكامل”، وقد سمي مدير الموقع جوليان أسانج وهو ناشط استرالي كأحد اختيارات القُرّاء لشخصية 2010. وذكر مكتب مُفوِّض المعلومات في المَملكة المتحدة بأنّ “ويكيليكس هو جُزءٌ من ظاهرة على الإنترنت لها سلطة المُواطن”، وفي أول الأيام ظهرت عريضة إنترنت مُطالبة بوقف ترهيب ويكيليكس خارج نطاق القضاء وقد استقطب أكثر من ستمائة ألف توقيع.. وأثنى مُؤيِّدو ويكيليكس في الأوساط الأكاديمية والإعلامية بتعريضها أسرار الدولة والشركات، مُطالبين بزيادة الشفافية ودعم حُرية الصّحافة وتعزيز الخطاب الديمقراطي وهو ما يمثل تحدياً للمُؤسّسات القوية.
وفي ذات الوقت، انتقد عددٌ من المسؤولين الأمريكيين، ويكيليكس لتعريضها معلومات سرية تَضُر بالأمن القومي وفضح الدبلوماسية الدولية، وطلبت عدة مُنظّمات لحقوق الإنسان من ويكيليكس بإعادة صياغة نشرات الوثائق المُسَرّبة للمُحافظة على المدنيين الذين يَعملون مع القوات الدولية وذلك للحيلولة دُون حُدوث أيٍّ تداعياتٍ، وبالمثل فقد انتقد بعض الصحفيين ضعف الإدراك لحُرية التحرير للإفراج عن آلاف الوثائق في آنٍ واحدٍ بدون تحليل كافٍ، وأعربت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في رَدِّها على بعض ردود الفعل السلبية عن قلقها إزاء “حروب الإنترنت” ضد ويكيليكس، وفي بيانٍ مُشتركٍ مع منظمة البلدان الأمريكية، طالب المقرر الخاص للأمم المتحدة، الدول والجهات الفاعلة الأخرى بوضع المُحافظة على المبادئ القانونية الدولية بعين الاعتبار.
الجدير بالذكر أنّ مُؤسِّس ويكيليكس جوليان أسانج تَمّ اعتقاله مُؤخّراً بواسطة الشرطة البريطانية بعد أن سَحبَت منه الإكوادور حق اللجوء السياسي، وكان الرئيس الإكوادوري السابق رافاييل كوريا قد منح أسانج حق اللجوء بعد تخوفه من ردود فعل تؤدي لترحيله الى أمريكا تجاه نشره لوثائق سرية تتعلّق بالجيش الأمريكي.
عُودوا لمساكنكم
مَحلياً، حدثت بعض التسريبات لم ترقَ لمُستوى تسريبات ويكيليكس، ولكنها على أيِّ حالٍ أحدثت بعض ردود الفعل الحانقة، منها ما حدث مع وزير التربية الأسبق عليه رحمة الله الدكتور المعتصم عبد الرحيم أجرت معه إحدى الصحف حواراً يبدو أنّ محاوره لم ترق لبعض الإسلاميين، وباستغلال العلاقات الخاصّة استطاعوا إيقاف نشر الحوار، وعِوَضَاً عن ذلك سرّبت معلومات تتّهم المعتصم بفساد مالي يتعلّق بأموال (كنترول امتحانات الشهادة) بغرض اغتيال شخصيته.. وقال إنّه يملك معلومات ومُستندات كثيرة ضدهم .
ثقافة إنقاذية
تسريب المُستندات ونشر الغسيل أمرٌ برعت فيه قيادات الإنقاذ عبر ما يُسمّى بـ(الحَفِر) بغرض الاغتيال السِّياسي أو الإقصاء لأحد كوادرها لأسبابٍ مُتعدِّدةٍ، وما ملفات الفساد التي نُشرت بالصحف وأوقف بعضها بسببها، إلا تسريبات خرجت لأحد تلك الأسباب، ولعلّ أشهر من تعرّض لهذا النوع من الاغتيالات الفريق طه عثمان المدير السابق لمكتب الرئيس المخلوع، حيث نُشرت له صُورٌ خارج الحدود، وقيل إنّ مُنتج ذلك التّسريب هو أحد أصدقائه.
الدولة نفسها في إطار سعيها غير الجاد لمُكافحة الفساد استغلت ملفات مثل حوافز العاملين بوزارة المعادن للوزراء والوكلاء، فتم تسريب كشوفات لحوافز مليارية لاغتيال الوكلاء والمديرين .
سرية حسب الأهمية
إذن ماذا تشمل الوثائق والمُستندات وكيف تتم حمايتها وعلى من تقع مسؤولية تلك الحماية؟
خبير الوثائق والمُستندات اللواء شرطة (م) معتصم الكجم أجاب عن أسئلة (الصيحة)، وقال: إنّ (الوثائق والمُستندات هي كل شيءٍ يحتوي على معلوماتٍ مُهمّةٍ وخاصة، وتشمل الوثائق، جواز السفر والبطاقة الشخصية، أمّا المستندات فتشمل كل مخطوط له قيمة مالية أو معنوية، إذا كانت تلك المُستندات حكوميّة، فيجب حمايتها وعدم الإفشَاء بما تَحويه من معلوماتٍ أو الإطلاع عليه حمايةً للصّالح العام للدولة، تُحفظ هذه الوثائق والمُستندات في خِزنٍ أو دَواليب مُؤمّنة ومَحمية ضد الحرائق والسَّرقات أو الإطلاع عليها من قِبل الغير خوفاً من تسريبها إلى جِهةٍ ما بغرض تَفريغ وسرقة مُحتواها لاستخدامه من جهةٍ تستفيد من مضمون ما تحتويه أو التشهير بالأشخاص المُضمّنين في سجلات تلك الوثائق).
درجة السرية
كيف تُحدّد درجة سرية الوثيقة؟ يجيب الكجم بأنّ درجة سرية الوثائق وفق أهميتها بتعريفات مُحدّدة وتكتب درجة سريتها بخطٍ واضحٍ ومَعلومٍ، ويُستحسن أن تُوضع في مكانٍ سري ومَحمي من الحرائق والغُبار والرطوبة والسَّرقة، ويُراعى عند اختيار المُوظّف المسؤول الذي يعمل على حفظ تلك المُستندات أن يكون على درجةٍ عاليةٍ من الأمانة وأهلاً للثقة ولا يسمح بدخول مكتبه أو فتح خزانة موضع الوثائق شَخصٌ آخر، وأن يُمنع التصوير لأيّة جهة مهما كانت .
جريمة تستحق العقاب
قانونيون قالوا إنّ تسريب المُستندات والوثائق السِّريَّة جريمة يُعاقب عليها القانون، مُؤكِّدين أنّ المُتَسَبِّب في تَسريبها يُلاحق قانونياً، مُوضِّحين أنّ النصوص تجرم مُرتكب الفِعل، ويُدان أمام القَضاء نظراً لتسبُّبه في إخراج المُستند من حيِّزه القَانُونِي مُؤدياً إلى إثارة الرأي العام وإحداث البلبلة في المُجتمع.
قانونٌ مُعيبٌ
اعتبر قانونيون تَسريب المُستندات والوثائق السِّريَّة، جَريمة يُعاقب عليها القانون، ويُلاحق المُتسبِّب الذي يقوم بتسريبها قانونياً ويُدان أمام القضاءً لتسبُّبه في إخراج المُستند من حيِّزه القانوني مِمّا يؤدي لإثارة الرأي العام وإحداث البلبلة في المُجتمع.. المُستندات والوثائق مُتعلِّقة بالخُصُوصيّة ويعتبر التسريب جريمة، خَاصّةً فيما يخص الجهات الرسمية، فمسؤوليتها أكبر، ويدخل التسريب في جرائم المعلوماتية حسب خبير القانون الدولي دكتور شيح الدين شدو الذي قال لـ (الصيحة)، إنّ الصحفيين يَتَعَرّضون للمُلاحقة بصُورة أكبر من غيرهم بسبب هذا الأمر، ووصف شدو، قانون المعلوماتية 2007 بأنَّه ركيكٌ من حيث الصياغة ومُعيبٌ وليست فيه تعريفات، والعقوبات فيه تعذيرية، وكل القضايا التي طُرحت أمامه قضايا اجتماعية، مُشيراً إلى أنّ القانون شرع لحماية الدولة، لكن المُواطنين استغلوه استغلالاً سيئاً.
انتهاك الخُصُوصية حسب شدو ينقسم لقسمين “عام وخاص”، العام لا يجوز فيه التنازُل، ولكن الخاص مثل تصوير جواز معتز يُمكن أن يتنازل عنه، والعُقُوبة تتراوح بين السجن أو الغَرامة أو العُقُوبتين معاً وفق المادتين (14 و17) – العقوبة انتهاك الخُصُوصية وإشانة السُّمعة، ولأنّه ليست هناك سوابق قانونية فالقضاة يجتهدون، وأحياناً يأتي الحكم غير مُناسبٍ للجرم، ومن ثَمّ فهذا القانون يحتاج لإعادة صياغة.
من المُحَرِّر
وإن كان الجميع قد اتّفقوا على أنّ انتهاك خُصُوصية الآخرين ونشر أسرارهم سلوكٌ سيئٌ ويجب مُعاقبة مُرتكبه، إلا أنّ التسريبات تُعتبر مصدراً مُهمّاً لأجهزة الإعلام لكشف ملفات الفساد التي قَصَمَت ظهر النظام المخلوع، وإن كان مُسرِّبي تلك الملفات تُحرِّكهم أغراضٌ شخصيةٌ، ولكن مَا يَعني الصّحفي في هذه الحالة هو صحة المَلفّات المُسَرّبة.