الخرطوم ـ انعام عامر
داخل ردهة الفندق الفخم…لم يبد أي شيء غير عادي.. وفي الواقع فإن وفوداً من السياح كان يمكن أن تبدو تحركاتهم غامضة.. بدت تحركاتهم محسوبة مثل أنفاسهم تماماً.. عند وصولهم مدينة دبي ..بدا أن لا شيء يربط بينهم سوى أنهم سياح إلا أنهم في الواقع كانوا ينتمون لوحدة الاغتيالات والتصفيات بالموساد الإسرائيلي المسماة (قيساريا).. كانوا يرتبطون بوحدة اتصالات مركزية مقرها النمسا.. ولم يكن أي واحد منهم يستطيع أن يتصل بالآخر دون السنترال في فيينا أو إسرائيل..
تفاصيل الجريمة حيكت خيوطها ليلاً .. تحت جنح الظلام.. بعدما صدرت الأوامر من أجهزة المخابرات والأجهزة التنفيذية بتل أبيب لتحقيق هدف واحد، هو إضعاف المقاومة بحركة حماس وبتر أذرعها.. نفذ العملية فريق من وحدة خاصة بالاغتيالات داخل جهاز الموساد، وأطلق على العملية (بلازما اسكرين)..
فريق (قيساريا)
بدا رونين بيرغمان محرر الشؤون الاستخباراتية بصحيفة يديعوت أحرنوت أكثر حذراً وهو يشرح مهام هذه الوحدة المسماة قيساريا، ووصفها، استناداً إلى تقارير غربية بأنها موساد داخل الموساد، بقوله “إن داخل الموساد يعمل كقسم كامل أو تنظيم سري مستقل ومعزول، هي ذراع الموساد للتصفيات والاغتيالات في الخارج”. وتسمى هذه الوحدة أيضاً (كيدون).
وحسب بيرغمان، فإن هذه الوحدة أو الجسم المستقل نفذت سلسلة طويلة من العمليات من بينها اغتيال زعيم الجهاد الإسلامي في فلسطين، فتحي الشقاقي، وعاطف بسيسو وصفّت مُنفذي عملية ميونيخ.
فشل المهمة
قام فريق من عملاء قيساريا بتتبع المبحوح لأول مرة في دبي في عام 2000، ليس بغرض اغتياله هذه المرة ولكن لدراسة تحركاته، وفي الغالب، للتأكد من أنه رجلهم، حسب إفادات الصحفي الإسرائيلي رونين المقرب من الموساد وبعد أربعة أشهر، في نوفمبر، ذهب فريق (بلازما سكرين) إلى دبي مرة أخرى، هذه المرة للقضاء عليه. سمموا شرابًا تم إحضاره إلى غرفته في الفندق، لكنهم إما أخطأوا في الجرعة أو لم يبلع منه ما يكفي..أغمي على المبحوح فقط. ما دعاه إلى قطع زيارته وعاد إلى دمشق، حيث عزا طبيب نوبة إغمائه إلى خلل ـصاب كريات الدم البيضاء. قبل هذا التشخيص ولم يشك بتعرضه لمحاولة اغتيال استناداً إلى معلومات أدلى بها بيرغمان الذي اعترف بأن هذا التحول في الأحداث تسبب في إحباط عميق داخل الموساد.. كان هناك اصرار كبير بأنه لن يكون هناك أي خطأ هذه المرة.. لن تغادر فرقة الاغتيال السرية دبي قبل أن ترى بأم عينيها أن المبحوح قد مات…
خطة القتلة
كانت الخطة أن يطير فريق الاغتيال المكون من سبعة وعشرين عنصراً إلى دبي من عواصم أوربية مختلفة حتى لا يلفت حضوره إلى دبي الأنظار… هبط أول ثلاثة أعضاء في فريق (بلازما سكرين) في دبي في تمام الساعة 6.45 صباح يوم 18 يناير 2010م. ويقول رونين، على مدى الساعات الـ 19 التالية، وصل بقية أعضاء الفريق – ما لا يقل عن 27 عضوًا – على متن رحلات جوية من زيورخ وروما وباريس وفرانكفورت. وكان 12 منهم يحملون جوازات سفر بريطانية وستة إيرلندية وأربعة فرنسية وأربعة أسترالية، وجواز ألماني واحد… كانت كلها حقيقية، ولكن لا شيء في الواقع كان يخص الشخص الذي يستخدمها.. وهنا يعترف بيرغمان أن بعض تلك الجوازات قد أخذت من مالكيها، من سكان إسرائيليين يحملون جنسيات مزدوجة، وتم الحصول على بعضها تحت هويات مزيفة، وبعضها سرق، وبعضها الآخر توفي أصحابها.
غرفة القيادة
عند تمام الساعة 09:00 صباحًا في 19 يناير ، وصل “غيل فوليارد” و “كيفن دافيرون”. كان من المقرر أن تكون المحاور الرئيسية للعملية – السيطرة على غرفة القيادة الأمامية، ووضع الكل تحت المراقبة الدقيقة.. بمن فيهم موظفو الاتصالات، والحراس والمراقبون. قاموا بدخول غرف منفصلة في فندق (G). أخذ موظف الاستقبال أموالهم وأعطيت الغرفة رقم (102) لـFolliard)) والغرفة رقم (308)Daveron.. . قبل النوم ، طلب Folliard وجبة خفيفة من خدمة الغرفة. وتناول دافيرين مشروبًا غازيًا من الميني بار.
هبط “بيتر إلفينجر”، قائد فريق الاغتيال، مطار دبي بعد 21 دقيقة من هبوط كل من أعضاء فريق الاغتيال فوليارد ودافرون، كانا يحملان جواز سفر فرنسياً. بعد تخطي نافذة الجوازات، نفذ Elvinger مناورة مراقبة صغيرة، خرج من خلال الباب الطرفي، انتظر ثلاث دقائق، ثم استدار وعاد إلى الداخل، للقاء، حدد سلفاً مع عضو آخر في الفريق جاء إلى المطار في وقت سابق.. في وقت مبكر من بعد الظهر، كان الفريق بأكمله بانتظار وصول المبحوح. كان من المتوقع أن يصل في الساعة الثالثة، إلا أن أي شيء غير ذلك كان متوقعاً.. وربما قصد هنا حدوث أي نوع من التمويه.. الذي يحدث عادة في مثل تلك الظروف.
وصل المبحوح عند الساعة 3.35 مساء. وقد تبعه الفريق إلى فندق البستان روتانا. قام أعضاء الفريق باستخدام الهواتف المحمولة على نطاق واسع، ولكن من أجل تجنب الروابط المباشرة بين أرقامهم، اتصلوا برقم في النمسا، حيث وضعت لوحة مفاتيح بسيطة مثبتة مسبقاً، إما إلى هاتف آخر في دبي أو إلى الأمر آخر في إسرائيل.
كان أفراد الطاقم الموجودين بالفعل في ردهة فندق البستان روتانا يرتدون ملابس التنس ويحملون مضارب. بعد أن حصل المبحوح على مفتاح غرفته، دخل معه اثنان منهم المصعد، وعندما خرج في الطابق الثاني، تابعوه على بعد مسافة ولاحظوا أنه كان يقيم في الغرفة رقم(230)… حالما عرف إلفنجر رقم غرفة المبحوح، أجرى بعدها مكالمتين هاتفيتين. الأولى كانت في فندق البستان روتانا ، لحجز غرفة. سأل عن الغرفة رقم 237، كانت قريبة من غرفة المبحوح رقم (230).. ثم اتصل بشركة طيران لحجز مقعد في رحلة إلى ميونيخ عبر قطر في وقت لاحق من ذلك المساء..
بعد الساعة 4 مساءً بقليل، غادر المبحوح الفندق. لاحظ الفريق الذي كان يتتبعه أنه كان يتخذ إجراءات احترازية. كان لديه سبب وجيه للقيام بذلك. وحسب رونين، لقد مات جميع رفاقه تقريباً في حماس منذ أواخر الثمانينيات موتاً غير طبيعي. لكن تحركاته كانت بسيطة وغير متطورة، ولم يواجه الفريق صعوبة في إبقاء عينيه عليه. انتظر كيفن دافيرون في ردهة البستان من أجل إلفينجر، الذي وصل في الساعة 25:25. لقد التقطت الكاميرا الأمنية بوضوح جواز سفره الخاص بالاتحاد الأوروبي المغطى باللون الأحمر.
أصحاب قبعات البيسبول
بعد ساعتين، جاء أربعة رجال إلى الفندق، على دفعتين. جميعهم كانوا يرتدون قبعات البيسبول التي كانت تخفي وجوههم. حملوا حقيبتين كبيرتين. ثلاثة منهم كانوا من وحدة”الاغتيالات” قيساريا. الرابع كان خبيراً في اختيار الأقفال. ذهبوا مباشرة إلى المصاعد وإلى الغرفة (237)..لم تبد الأجواء داخل الفندق في ذلك الوقت غير طبيعية، وعند الساعة العاشرة، أفاد طاقم المراقبة أن المبحوح كان متجهاً إلى الفندق. ظل دفرون وفوليارد يراقبان الممر في حين بدأ منتقي القفل يعمل على قفل الباب غرفة رقم(230). وكانت الفكرة هي إعادة برمجته حتى يفتح المفتاح الرئيسي للموساد الباب دون لفت النظر، في الوقت نفسه دون أن ينتبه المارة من النزلاء وغيرهم. وأثناء تشغيل المفتاح الصحيح. خرج أحد السياح من المصعد، ولكن دافرون سرعان ما اشتبك معه في حوار شغله به ريثما تتم المهمة. لم ير السائح شيئاً، وتم اختبار القفل، ودخل الفريق الغرفة… ثم انتظروا…وهنا يقول رونين بيرغمان “حاول المبحوح التوجه مرة أخرى إلى الممر. لكن اثنين من العناصرمزودة بالأسلحة القوية استحوذت عليه. قام رجل ثالث بتكميمه بيد واحدة، مع الضغط على عنق المبحوح بواسطة اداة تستخدم الموجات فوق الصوتية لحقن الدواء دون تكسير الجلد. تم تحميل الأداة بكلوريد سوكساميثونيوم ، وهو مخدر معروف تجارياً باسم (Scoline) يستخدم مع أدوية أخرى في الجراحة، وهو يدفع إلى الشلل، ويتسبب في شلل العضلات المستخدمة في التنفس للتوقف عن العمل، والاختناق”.
حافظ القتلة على قبضتهم حتى توقف المبحوح عن النضال. ومع انتشار الشلل في جسده ، وضعوه على الأرض. كان المبحوح مستيقظًا . وفحص الجلادون نبضه في مكانين، حيث تم إرشادهم للقيام به من قبل طبيب الموساد، والتأكد من أنه في هذه المرة كان ميتًا حقًا. قاموا بإزالة حذائه وقميصه ووضعوهما بعناية في الخزانة ووضعوا الجسم في السرير تحت الأغطية… يقول بيرغمان إن العملية استغرقت (20) دقيقة، باستخدام تقنية طورها الموساد لمثل هذه المناسبات، أغلق الفريق الباب بطريقة تبدو وكأنها مقفلة من الداخل، مع انزلاق السلسلة إلى مكانها. علقوا علامة “لا تزعج” على مقبض الباب، وتم الضرب مرتين على باب غرفة المراقبة التي تحمل الرقم 237 كإشارة على إنجاز المهمة، ثم اختفى الفريق في المصاعد. في غضون أربع ساعات، كان معظم الفريق خارج دبي، ولم يبق أي منهم بعد 24 ساعة.
في تل أبيب، ساد جو من الرضا الذاتي، وسط مجتمع السياسة والاستخبارات إلا أن ما كان ينتظرهم هو ما كشفته كاميرات المراقبة بمطار دبي والفندق بالإضافة إلى كشف جوازات السفر المزورة التي استخدمها فريق الاغتيال.. الأمر الذي أدى إلى كشف العملية كاملاً..