مايو أنشأت كتيبة إستراتيجية لإفشال إضراب السكة الحديد والعسكري يُراهن على قوى التمكين السابقة
تكتيكات متباينة لكل طرف، التجمع لجأ للإعلام والعسكري لسياسة الاستقطاب
قراءة أحمد طه صديق
ربما كان عمال السكة الحديد بعطبرة من أكثر القطاعات في البلاد التي كانت تجاهر الرئيس الراحل نميري بالعداء، حتى إنه من الطرائف قيل إنه رفض رصف طريق الخرطوم عطبرة، وقال (كان رصفنا العمال يجوا بعجلاتهم يتظاهروا في الخرطوم).
ودفعت هذه المشاعرالسلبية المتبادلة النميري إلى نقل رئاسة السكة الحديد من عطبرة للخرطوم، بالرغم من الكثافة العددية للعمال هناك، وجود ورش الصيانة والتأهيل، ثم سرعان ما انتابت نميرى الشكوك تجاه نوايا العمال، فعمل على إنشاء ما سمي بالكتيبة الإستراتيجية التابعة للقوات المسلحة في بداية الثمانينات، والتي كانت مهمتها إفشال أي إضراب لعمال السكة الحديد، حيث تم تعيين كل الكوادر التي يتطلبها تشغيل حركة القاطرات ، حيث شملت سائقي القطار وعمال السيمافورات وفنيي الصيانة من ميكنة وكهرباء ديزل وبرادين وخراطين وعمال إسناد كالنظافة وتعبئة الوقود، بالإضافة إلى عمال الاتصالات التي تقوم بمتابعة سير القطارات وتأمين وصولها .
تلك كانت خيارات الرئيس السابق نميري لمواجهة إضرابات عمال السكة الحديد، فما هي خطط مواجهة المجلس العسكري الانتقالي إزاء تنفيذ الإضراب الشامل الذي لوح به تجمع المهنيين، وما هي تكيتكات التجمع لإنفاذ تهديداته، وما هي احتمالات النجاح والإخفاق؟
آليات الإضراب ومتاريس الجو
في أعقاب انتهاء جلسة التفاوض الأخيرة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري دون التوصل إلى اتفاق نهائي حول نسبة المشاركة في المجلس السيادي ورئاسته، توعد تجمع المهنيين وهو من الأذرع المهمة لقوى الحرية والتغيير، وقائد الحراك الشعبي الذي أدى إلى سقوط النظام بعد انحياز القوات المسلحة له باستلام السلطة، هدد بتنفيذ إضراب عام وعصيان مدني شامل في حال لم يتم تسليم السلطة للمدنيين، وكان تجمع المهندسين السودانيين قد أعلن تضامنه مع دعوة الإضراب العام والعصيان المدني الشامل، وقالوا في بيان لهم إن مطالبهم تتمثل في أن تكون للمدنيين الأغلبية في مجلس السيادة بتمثيل عسكري محدود ، وكانت وسائط الميديا للتواصل الاجتماعي قد أشارت إلى عزم الطيارين المشاركة في الإضراب العام، وكان التجمع المهني للطيران قبل يوم واحد من استنئاف المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير قد استبق الجلسة بإبداء استعداده لإغلاق المجال الجوي الدولي في حالة وجود تماطل أو تأخير في تسليم السلطة للمدنيين، في خطوة تهدف لتقوية الموقف التفاوضي لقوى الحرية والتغيير.
وقال التجمع في بيان لهم إنهم سيتّبعون وسيلة من وسائل المقاومة السلمية أطلقوا عليها متاريس الجو.
وكان تجمع سيدات ورجال الأعمال أعلنوا دعمهم لدعوة تجمع المهنيين للإضراب العام والعصيان الشامل، مما يعني أن عدداً كبيراً من مرافق القطاع الخاص ستشارك في الإضراب على الأقل من الناحية النظرية وفق ما ذكر، كما دعت قوى الحرية والتغيير تسيير مواكب سلمية للإسناد الشعبي، تنطلق من أماكن العمل المختلفة إلى مقر الاعتصام بالقيادة العامة.
عقبات تواجه الإضراب العام
من المتوقع أن تواجه خطوة تنفيذ الإضراب العام والعصيان المدني الشامل الذي دعا إليه تجمع المهنيين في حالة عدم نقل السلطة للمدنيين صعوبات وعقبات، أبرزها هو وجود جيوش التمكين الوظيفي في أماكن المرافق العمل العام خاصة الإستراتيجية، والتي زرعتها سلطة الإنقاذ في إطار سياسة التمكين الشامل لكل النشاطات التجارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بل حتى الرياضية، فهذه القطاعات التي تدين بالولاء للنظام السابق ، بعضها بحكم الانتماء التنظيمي والآخر بفعل المصلحة الذاتية، لا يمكن بداهة أن تصطف مع تجمع المهنيين الذي تسبب في زلزلة نظامهم وأفوله على الصعيد الهيكلي الفوقي على الأقل، كما أنها تخشى من قيام حكومة مدنية تطيح بهم، وقد تحاكم المفسدين منهم، كما أن هناك أيضاً بعض العناصر السلفية في الخدمة العامة، الذين لن يشاركوا بالطبع في دعوة للإضراب وإن كان عددهم قليل.
ولاشك أن عدداً من غير المنتمين للنظام السابق كونوا أجساماً وتيارات بغرض قيادة الحراك الثوري الذي يقوده تيار المهنيين، لكن تبقى استمالة الموالين للنظام السابق أمراً شبه مستحيل، كما أن أعدادهم بحكم التمكين أقل منهم ، لكنهم يمتلكون أرضية لا يستهان بها على صعيد القوى الشبابية غير المنتمية سياسياً، والتي تشكل الوقود والسند الأساس في اعتصام القيادة العامة، الأمر الذي سيكون أيضاً وسيلة ضغط مهمة، حتى في حالة فشل دعوة الإضراب العام والعصيان المدني الشامل .
لهذا وفقاً لهذه المعطيات، فإن تجمع المهنيين في حالة اضطراره للدعوة للإضراب العام سيختبر قوته في الحشد المهني داخل منظومة العمل المختلفة في البلاد بإعلان الإضراب ليوم واحد، كخطوة إبتدائية واستكشافية للموقف ، ومن ثم يقرر على ضوئها الاستمرار أو الاكتفاء بتصعيد مواكب الاحتجاجات وتوسيعها في كل أنحاء البلاد.
خيارات المواجهة للمجلس العسكري
تبدو عناصر تمكين نظام الإنقاذ في الخدمة العامة من أهم الآليات التي يراهن عليها المجلس العسكري في إفشال الإضراب العام، وفي هذا الصدد أصدر المجلس العسكري قراراً بفك تجميد النقابات المهنية التي كانت موجودة إبان النظام السابق بما تمتلكه من قدرة على استقطاب عناصرها في تلك المرافق، واصطفافها لمواجهة أي نقص محتمل من الكوادر جراء تنفيذ إضراب المهنيين.
وفي إطار تكتيكات مواجهة الإضراب السياسي بدأ نائب رئيس المجلس العسكري الفريق أول محمد حمدان حميدتي بزيارة عدد من مرافق الدولة ومخاطبتهم وتطمينهم برفع الظلم الوظيفي عنهم، فإذا كان التجمع المهني للطيران قد أعلن عزمه على تنفيذ ما أسماه بمتاريس الجو بإغلاق الأجواء أمام الطيران في حالة إعلان الإضراب العام، فإن الفريق أول حميدتي قام بهجمة مرتدة عندما خاطب العاملين في سلطة الطيران المدني وأعاد الموظفين والعمال العالقين مرة أخرى للعمل بل وصرف مستحقاتهم بأثر رجعي، كما منح مرتب ثلاثة أشهر منحة لكل العاملين، كذلك في لقائه بمجلس الوزراء مع مديري المؤسسات والهيئات والوحدات الحكومية يوم الأربعاء الماضي، أبدى حميدتي دهشته واستغرابه من ضعف مرتبات المعلمين الذي يبلغ ألف جنيه فقط كحد أدنى، في إشارة لتطمين المعلمين وهم قطاع كبير بإمكانية تعديل أوضاعهم قريباً، وهي دعوة ذكية لتحييدهم من الاصطفاف مع دعاوى الإضراب، سيما والعام الدراسي الجديد في يونيو المقبل .
سلاح الفصل
من الأسلحة التي لوح بها المجلس العسكري على لسان نائب الرئيس محمد حمدان حميدتي، هي فصل المضربين، فقد هدد الأسبوع الماضي بإشهار سيف الفصل للمشاركين في الإضراب العام، حينما قال(أي واحد يضرب يقعد في بيتو).
بيد أن تطبيق سياسة الفصل تبدو صعبة لما لها من إسقاطات تتعلق بتوليد مزيد من الغبن والاحتقان، فضلاً على أنها من ناحية عملية يصعب فصل أعداد كبيرة من العاملين في حالة تزايد أعدادهم، علاوة على أن الخطوة في حالة تنفيذها من شأنها أن تلقى انتقاداً من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية، باعتبار أن سلاح الإضراب حق تكفله المواثيق الدولية وحقوق الفرد.
ولِبث الطمأنية لدى العاملين بعد تهديد الفصل من قبل نائب رئيس المجلس العسكري، وزعت قوى المقاومة التابعة لتجمع المهنيين في بعض الأحياء السكنية منشورات تشجع على الإضراب العام في حالة إعلانه ، وأشاروا أن قوانين العمل في السودان تتيح حق الإضراب ، وأنه ليس لأي جهة سلطة بفصل مضرب عن العمل ، وأوضحوا أن الفصل من العمل له أسس محددة ومتدرجة ليس من بينها الفصل بجرة قلم .
حرب إعلامية
من المتوقع في حالة تطبيق اليوم الأول للإضراب أن تشهد ميديا التواصل الاجتماعي حملات إعلامية مضادة من طرف مؤيدي تجمع المهنيين، وعناصر النظام السابق المستفيدين من الخلاف بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، فقد يبث المناوئون للإضراب صوراً توضح ازدحام الطرق الرئيسة بالخرطوم بالمواطنين وحركة سير المركبات العامة والخاصة، كدلالة على فشل الإضراب، بينما سيبث الطرف الأخر صوراً تحمل النقيض لهذه المشاهد.
وماذا بعد؟
لا شك أنه بعد كل تلك التقاطعات المتباينة، وحالة الاستقطاب الحاد، يبقى أن المخرج الوحيد للأزمة هو التوصل إلى حل مُرضٍ للطرفين، يحقق للقوى المدنية أشواقها في الحكم بعد خوضها لثورة بذلت فيها الدماء والعرق وذاقت فيها أصناف التعذيب من منظومة النظام السابق، كما تحفظ للمجلس العسكري هيبته التي يستمدها من القوات المسلحة وكشريك في صناعة الثورة بانحيازه للثوار، وهذا لن يتأتى إلا بإعلاء قيم الوطن على الولاءات الضيقة والعصبية والمصالح الذاتية، حتى نعبر بالبلاد إلى بر الأمان، ونحقق حلم الحرية والديمقراطية والتغيير الحقيقي، لبلد رزح تحت ركام التخلف التنموي حقباً طويلة من الزمان.