د. عمر آدم قبله يكتب : “شجون حديث” مثاقفات حول شعر البداوة…
29يناير2022م
“شعر الثنائيات”
قلت في المرة السابقة، إن الدكتور أحمد الطيب كان مهتماً بالبحث عن الثلاثيات والثنائيات في شعر البوادي السودانية. فالرجل من أبناء أم كدّادة التي ظلت سوانيها (جمع سانية) التي تجر بالدلاء لعقود طويلة موارد للإبل تحديداً. وبالرجوع إلى بوادي الكبابيش والكواهلة والزيادية تظهر الثنائيات الشعرية في أغاني الشقلاب والهسيس ومقاطع التوية التكرارية القصيرة والتي يسمونها (عصاة التوية), والثنائيات في الغالب أغانٍ حماسة أو فخر خاصةً في الشقلاب. وقد سبق القول إن تسمية الأسد بـ(الدّود) ترد في أغاني الحماسة بدرجة أكبر مما هو في التداولات العادية.
ومن أغاني الشقلاب ذات الإيقاع السريع التي (تحمّى) بها الصفقة ويشعل بها الحماس عند الزياديات الثنائية الشهيرة.
دود الحمرة رزم * في المحاري كرف لي دم
وتكرّر بصورة سريعة وتصاحبها صفقة أو تصفيق بصورة حماسية وذات إيقاع حاد وسريع ويجاري ذلك حركة سيف العريس بإيقاع سريع أيضاً يميناً ويساراً. ومثلها من الثنائيات
جينا دلدمة نحل * يا اخو العز أهل
أو
عزنو بي مَجد * فيه نحايل الجد
عزنو بي دلال * فيه ملامح الخال
وكذلك
والليلة يا دود القليت * تم رايه بنولو بيت
و
حتّنو الما وصيل * أزرق سبيب الخيل
ووفقاً لهذا الإيقاع تحرك الفتيات ضفائرهن بصورة سريعة لأعلى يساراً ويميناً أيضاً مع حركة سيف العريس وإيقاع الثنائية.
هناك شقلاب بطئ أو “ثقيل” وهو مُرتبطٌ بصفقة وحركة هادئة لسيف العريس أيضاً تبعاً بإيقاع الأغنية مثلما في الثلاثية..
ود نمر الفروع
أبو راياً ما مودوع
دفاع الشوايل في ليالي الجوع
أو في الثنائية:
جيناك يا عريس اُمرق لينا برّه
نحن سلاح دِنار الـ(بالترباع) جرَّ
وإذا كان هناك كما تقدم دود الغابة ودود اللية، ترفدنا أغاني الحماسة بدود الحمرة ودود القليت وتضيف إحداهن دود الحِقينة وهي تصف (حريرين)
دود الحقينة * الما بتملي عينه
دخريكن يا زينة * خريف شري ساوينا
* وشري هنا تعني المطر الثجاج، وساوينا تعني عام.. كما يقول أبو علاء المعري:
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي * مواطر ليس تنتظم البلادا
ويصف “فاعوص شنتور” كرم حريرين في قوله:
برادو كبير قيروانه * وقدحو يوازن الدوانه
ترا حريرين سدَّ خانه * واقيفوا رجال فوق بكانه
ونجد هنا في أول ثنائية “دود الحمرة رزّم” وبذلك فالأسد عندنا “يتقنت” و”يتنتر” و”يتزفر” و”يقرقر” وأيضاً “يرزم” أو يترزّم.
*ويبدو أن وصف صوت الأسد بالقرقرة مُتداولٌ أيضاً في بوادي شرق السودان أو البطانة بوجه خاص، فها هو يوسف البنا يقول في فقد ناظر الهواوير (ود ابقدم).
فاقداك القفارات أم تبرةً فاقعة
والوعر “التقرقر” فيهْ الأسود متصارعة
سكينك على عقر الردوف متسارعة
يا أب شنبا ملوي وديمة قامتك فارعة
*والتبر من نباتات المراعي الخصبة وهو مثل الحنتوت مرغوبٌ عند الرعاة.
ونجد في الفصحى “هزيم الرعد” ولكن عند أهلنا الرعد يرزم والناقة ترزم وها هو الأسد يرزم وكذلك النقارة ترزم.
نقارتو رزّمها * وام دِفرة حزّمها
ويصف يوسف البنا ارتباط الناقة بالبرق والرعد
لي رزمي البروق أمات تكيك صناطة
والرزمي هنا منسوب للبرق ولكنه بالأحرى للرعد.
وينسب ود الشريقاوي صوت الرعد إلى السحب بقوله
أقول فوسيبة الفوقو السحايب رزّن
ولا جريعة المنو النفوس ما كزّن
وبذلك يكون للرعد رزيم ورزيز
وعلى ذكر رزيم الناقة، فإن الزيادية يسمونها رزّامة.. مثلما يقولون جقلة كاسم عام. ويطلقون أحياناً اسم رزّامة على بعض الفتيات الصغيرات.
وتقول إحداهن وهي تستخف بالهجرة إلى ليبيا في الثمانينيات
غربة ليبيا دعاية *هان وهناك رعاية
الرزمت قارنه التاية * لقحه وجايبه انتايه
ويصف يوسف البنا شرور الناقة ومخاطرها بقوله.
بكان ما تحن وترزم ترمي فارس ميت
واسمحوا لي أن أقول دعونا نتحرى أصالة المفردات وروائع الفصحى في بوادي السودان قبل أن تندثر.
وأقول ثانية في بوادي السودان الرعد يرزم والناقة ترزم والنقارة ترزم والأسد يرزم وربما النحاس كذلك.
ودمتم في حفظ الله.