(الغتغتة) و(الدسدسة) في السياسة السودانية!!
كتب: عبد الله عبد الرحيم
في عالم السياسة تصبح “الشفافية” أحياناً عبطاً كبيراً وأنت تحذو تجاهها في ظل وضع معين مهيمن مفروض على “دسك الدولة وحكومتها” التي لن تجد بداً سوى محاولة تجنيب نفسها المخاطر المحتملة، بينما تصير “الغتغتة” و”الدسدسة” أحياناً متنفذاً مهيباً ومسلكاً رحباً يتسع لركبان الحكومة أياً كانت لاتخاذه وسيلة وهدفاً، وهي تعاني من عقوبات وافتراضات دولية مختلفة، وقد تؤثر بشدة على العلاقات الخارجية والتعامل الداخلي بين الدولة وشعبها سلباً وإيجاباً، وهذا ما شهدته فترة الإنقاذ التي وضعت السودان في سلم الترتيب الدولي من حيث الشفافية وعدمها في المرتبة الخامسة قبل الأخيرة..
وفي ظل التغيير والثورة، انتظمت الدولة في تغيير جلدها الذي ارتدته طيلة فترة حكم الإنقاذ- مجبرة كانت على ذلك أم برضائها- ومارست عبره الدسدسة و(الغتغتة) والتمكين وغيرها من المصطلحات التي لا تتماشى والعهد الديموقراطي، جعل من قيادة المجلس العسكري وهم ينقلون هواء الصحة الذي بدأ يصل لرئة الدولة بأن عهد الغتغتة والدسدسة قد ولى، وأن كل العمليات ستتم على المكشوف، في إشارة إلى درجة الشفافية الكبيرة التي قد تنتظم مسيرة الدولة السودانية، وهي تعتلي درجات الحكم الديمقراطي بعد القضاء على حكم الإنقاذ الموصوف بالشمولي.
فهل سيكتمل بنيان الديمقراطية والتحول المنشود، أم إن عهد الشفافية والوضوح الذي أكده نائب رئيس المجلس الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو لم يحن بعد، وهو يتحدث عن أن زمن “الغتغتة” و“الدسديس” قد انتهى، بقوله إن شغلنا سيكون على الواضح وعلى المكشوف.. ومن قبل قال الرئيس السابق عمر البشير زمن (الغتغتة) قد انتهى، كما أن الدكتور علي الحاج محمد عندما سئل عن الفساد في حكومة الإسلاميين قال “خلوها مستورة”، فيما قال الشيخ الراحل الدكتور حسن عبد الله الترابي، الأمين العام للإسلاميين، إن الفساد “بضع في المائة”.. “فالغتغتة” و”الدسديس” و”خلوها مستورة” و” بضع في المائة” كلها عبارات تشير لعدم الشفافية وتوطد لتقوية النظام الشمولي، وهي استخدامات ماكرة لإقناع المنافس بطريقة غير سوية لا تساير مواقف الشخصية السوية، حتمته ظروف معينة في ظل تنافس خطير بين القوى السياسية على إدارة الشأن العام..
(الصيحة) تجري محاولة لسبر أغوار هذه المصطلحات وضرورات استخدامها في ظل الأنظمة المختلفة ودواعي ذلك الاستخدام، ونتائجه من خلال تحليل نفسي وسياسي واقتصادي واجتماعي في ظل واقع متغير يتجدد كل يوم وليلة..
ممارسات شمولية
يقول بروفيسور عبده مختار موسى الأكاديمي والمحلل السياسي لـ(الصيحة)، إن أسلوب الغتغتة والدسديس أسلوب ينتمي ويرتبط بالأنظمة الشمولية، وهي ممارسة غير رشيدة ولا سليمة لجهة أنها تظهر خلاف ما تبطن والأنظمة الديمقراطية لا يمكن أن تميل لهذا الأسلوب، ولكن من الطبيعي أن تصدر من الأنظمة الشمولية مثل هذه الخطابات، فليس مستغرباً وليس مثيرا للدهشة ان ترتكب الإنقاذ مثل هذه الأساليب، فهي قد عودتنا عبر سنينها الطويلة أن تقول ما لا تفعل، مما أفقد الشعب السوداني ثقته فيها.
ولذلك لا مجال للمقارنة بين ما يقوله حميدتي وما يقوله الآخرون، فهو غير منتمٍ لحزب سياسي وغير منتمٍ للإسلاميين وعندما استعان به البشير استعان به كقوة مسلحة اقتضتها بعض ظروف الحرب في دارفور بناء على الأسلوب الفرنسي الذي تقاتل به الحركات الدارفورية، وهي قد أخذته من الجارة دولة تشاد، بينما يقاتل جيشنا بالطريقة الإنجليزية عبر الدبابات وغيرها من الأسلحة التي لا تنفع مع الطريقة الدارفورية، لذلك كان لزاماً على الحكومة اتخاذ أسلوب غير، ووجدته عند حميدتي لأنه آت من ذات الإقليم، فشخصية الرجل “حميدتي” شخصية وطنية ومستقلة وغيور على بلده، وهو ضابط مقاتل محترف، ولكنه غير محزب أو ليس له حزب، والدليل على ذلك عندما جاء المحك في أن يحمي الرئيس البشير، وهو الذي دعمه وكون به قوات، أو يقف إلى جانب الشعب، فاختار أن يقف إلى جانب الشعب، وظهر معدنه النظيف، بل هو رأس الرمح في هذه الثورة، وهو الذي أجبر البشير على التنحي، وحميدتي صاحب ضمير ومخلص وعمله ليس فيه “غتغتة او دسديس”، وما في قلبه على لسانه، لهذا كله أعتقد أنه عندما قال لا مجال (للغتغتة) في العمل القادم، أنه يعي ذلك تماماً، وعلى الشعب أن يفوت الفرصة التي تحاول اغتيال شخصيته فهو مكسب كبير للثورة.
مرض نفسي
بينما يقول التحليل النفسي لمرتكبي عملية (الغتغتة والدسديس) من السياسيين، إنهم حينما يرتكبونها، يعلمون أنها لا تنطلي على الشعب أو الجهة المنوط تضليلها عبر هذه (الغتغتة)، ولكنها وسيلة للدفاع يتخذها العقل الباطن وتقوى دفوعها للشخصية الديكتاتورية، وغالباً ما تكون في النظم غير الديمقراطية، لمواجهة الضغوط الخارجية أو المواقف الشعبية الضاغطة.
ويمضي د. محمود آدم الخبير النفسي والأستاذ بالجامعات السودانية في حديثه، بأن النتائج التي تتحقق من قبل هذه العملية السرية، وإن كانت قد أطلقت على الملأ، إلا أنها في قرارة نفس مطلقها غير واقعية، ورغم أدائها لدورها بامتياز، إلا أنها تحمل الكثير من الإخفاقات، لجهة أنها استخدمت لتغطية بعض الفشل الممارس في السياسة العامة للدولة أو المنشأة والمؤسسة.
هروب الذات
ويضيف محمود، أن عملية “الغتغتة أو الدسدسة” كما يقولها بعض المتحدثين، ما هي إلا صورة لطيفة للكذب والتضليل للهروب من تأنيب الضمير أو جلد الذات لدى ممارسي هذه الكذبة، ولكن نتائجها لا يمكن أن يتم إخفاؤها، لأنهم مهما اجتهدوا في “الدسدسة” سوف تظهر نتائجها لاحقاً، وسوف يفهم الشعب ويعي حجم الكذب الممارس ضده.
وقد أدى هذا لإظهار الثورات في بعض البلدان نتيجة كشف المستور وظهوره وتبيانه، و(الغتغتة والدسدسة) نوع من أنواع المرض النفسي، الذي سرعان ما يتحول لحالة عامة تمارس وسط فئة لا تمثل كل الشعب بل أقليته، ولكنها تملك مقومات الاستيلاء على رأي وقرار الآخرين عبر قوة شوكة وعزيمة هذه الجهة المسيطرة على الأوضاع العامة، وعلاجها يكمن في تحري الصدق والابتعاد من المؤثرات التي تحور المواقف إن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وغيره.
رغم أنف الموازنة
ويشير بروفيسور الفاتح محجوب الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي لـ(الصيحة)، بأن عملية (الغتغتة والدسدسة) في العمل السياسي أمرها ليس بهذه البساطة، فأحياناً تتم عمليات بتمويل جهات سياسية ملتوية، إذ أن الأجهزة الحكومية أحياناً تضطر لتمويل عمليات خارج الموازنة، وخير مثال لذلك الولايات المتحدة عندما قامت بتمويل ثوار الكونترا في نيكاراجوا، اضطرت في الدخول لصفقة معقدة لعملية شراء سلاح من دولة عبر دولة أخرى بفارق سعر يتم توريده لثوار الكونترا، وهذا النوع من العمليات الملتوية هو ما يعرف بـ “الغتغتة”، أما في فترة الإنقاذ، فقد كان هناك نوع من الغتغتة يمارس بصورة غير مرئية رغم أنف الموازنة، إذ أن الإنقاذ تقوم بالدفع للقوى السياسية والحركات المسلحة من خارج الموازنة العامة “شراء مواقف” ولن تجده في ديوان المراجعة أو الموازنة، إضافة لتعقيدات العمل الاقتصادي في إطار نظام محاصر كلياً من الخارج ومفروض عليه عقوبات اقتصادية لفترة طويلة، إذ كانت المضاربات والمشتروات والاستيراد الحكومي يتم عبر الدفع لحسابات أشخاص بالخارج، وليس عبر الخزينة العامة للدولة أو البنك المركزي، وقال إن الوضع الكارثي الذي خلفته العقوبات الأمريكية أدى إلى وضع كارثي للاقتصاد في السودان، وظهرت على إثره عمليات الفساد الكبيرة والتجاوزات في المال العام، على نحو ما جرى لعدم تمكن الدولة ممارسة البيع والشراء بنفسها لواقع العقوبات المفروضة عليها.
شعار رسمي
بيد أن ما قاله حميدتي عن انتهاء زمن عمليات (الغتغتة والدسدسة)، يجب أن يكون حقيقة وليس حلماً عبر التصريحات، لأن الواقع يجعل من الصعوبة بمكان إنهاء هذه العمليات في ظل الظروف السيئة التي يمر بها السودان، وهو لا زال تحت طائلة العقوبات الأمريكية في لائحة الدول الراعية للإرهاب، وأشار محجوب إلى أن السودان احتل المرتبة الخامسة قبل الأخيرة في سلم الدول من حيث الشفافية، (فالغتغتة والدسدسة) كانت شعاراً رسمياً للنظام، وشعار الشفافية كان غائباً تماماً من المشهد ، وحميدتي يريد بحديثه عن (الغتغتة) القول، أن الدولة ستتجه نحو الشفافية، وهو أمر محمود، ولكن عقبة وقوع السودان في قائمة الإرهاب قد يعوق هذا الاتجاه وهذه الشفافية، فالواقع يطلب من السودان ممارسة العمل الرسمي الدولي خارج دواوين الدولة بالخارج والداخل من تجارة واستيراد.
شئنا أم أبينا
وأكد محجوب أننا لن نتمكن من الحديث عن انتهاء عصر (الغتغتة والدسدسة)، طالما أن أسبابها لا زالت موجودة. وقال إن الإنقاذ لم تخترع هذا الأسلوب، وإنما الواقع هو الذي جعل هذا الأسلوب أمراً لا مفر منه، وزاد محجوب أن تطبيق واقع الشفافية يتطلب المضي قدماً في عملية رفع العقوبات المفروضة على السودان، وإلا فإن مسيرة “الغتغتة” سوف تمضي رغم أنفنا شئنا أم رفضنا.
إذن الغتغتة ليست خياراً تلجأ إليه الدولة بمحض إرادتها كما لا يمكن أن نفصله من الحالة العامة للدولة في ارتباطها بالعالم الخارجي، إذ أنه خيار يتبع للحيلولة دون العقوبات المفروضة، وطول فترة الحكومات المتعاقبة على السودان لم تشهد فترة حكم اشتهرت بهذا الأسلوب عدا فترة الإنقاذ، والسبب ربما يعود للعقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، بجانب وضعه في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وصار من الصعوبة الاتصال بالعالم الخارجي، وبناء علاقات ثنائية في ظل تلك العقوبات، ما دفع حكومة الإنقاذ إلى سلوك عملية (الغتغتة والدسدسة) للحيلولة دون الإيقاع بالشركاء في براثن العقوبات، وبالتالي فقدان النصير في ذلك الزمن الصعب، لذا نجد أن عملية (الغتغتة) كانت خياراً في مفهومها الكبير ومسلكها، ولكنها حتما لا تبرئ عمليات عدم الشفافية التي استمرت طوال فترة حكم الإنقاذيين.