د. عمر آدم قبله يكتب : الطريق إلى مدن الملح .. (2-3)
24يناير2022م
يجب علي أن افترع هذه “الترويحة” بجزيل شكري للذين أولوا “التدوينة” السابقة بعضا من اهتمامهم ووقتهم. وأقول “ترويحة” لأن هذا النوع من الكتابة يُرجى منه الأنس والترويح والتثاقف في مجالات الشأن البيئي السوداني بتلقائيته البكر وهموم نهضته وتطويره. لعلّنا بذلك نوفِّيه بعضاً من المساندة وتركيز الضوء.
كانت الرحلة الأولى لشمال بارا في ديسمبر “2004”. حيث بدأت الرحلة من مدينة الابيّض للوصول إلى “القاعة” عبر ريف بارا الغربي. غادرنا في الصباح من الأبيض متجهين شمالاً دون معرفة ليقودنا أحد الدروب المطروقة حديثاً إلى مورد مائي سطحي من النوع الذي يعرف في بوادي السودان وأريافه “بالرهد” او الفولة ويسمى عند البعض “اضاه”. ويشغل المسطح المائي حيِّزاً مقدراً فوق الأرض ويبدو عميقاً في المنتصف وهو محاط بالأشجار الظليلة وبعض الشجيرات متفاوتة الحجم ريانة الخضرة. في الجزء الشمالي من الرهد يتحرك عدد من النساء والفتيات والصبية، مشغولون بأخذ حاجتهم من الماء. ويوجد بالمكان سوق صغير، تجولنا في المنطقة سريعاً وبالسؤال قيل لنا إن هذه “تلوشة” وتعرف أيضًا “بالنيلة” ويسميها البعض “فنقوقة”. تعج بيئة الرهد بحضور لافت وبديع لفصائل مختلفة من الطيور وهنا استدعي المشهد إلى الذاكرة بيت الدوبيت الشهير
الرهد البقوقي دباسو
ردتو جميعو قمريهو وبلومو وناسو
ومهما يكن مراد الشاعر، فإن الانسجام والحيوية والتناغم بين مكونات المنظومة البيئية هنا يبدو مُبهجاً بحق. وثار على الفور سؤال طريف، ترى لماذا أسمت منتديات الخرطوم ذلك الفنان الراحل (عبد الرحمن عبد الله) رحمه الله والمنتمي لهذه البقاع بـ”بلوم الغرب”؟!
تحركنا على عجل نحو الشمال الشرقي عبر احد الدروب الذي انتهى بنا إلى منطقة السعاتة. توقفنا عند السانية التي تستخدم فيها الجمال والدلاء لـ”نشل” الماء وسقاية قطعان الضأن. علمنا لاحقاً أن هناك اكثر من “سعاتة”. فهذه “شعاتة شمبول” وهناك “سعاتة” بخاري وسعاتات أُخر. ومن طرائف أهل كردفان أنهم يطلقون اسماً واحداً على منظومة من واسعة من القرى. فيقولون “خماسات” و”شريمات” و”دماير” للإشارة لمناطق مثل “دميرة التوم” و”دميرة عبدو” وهكذا. بعد عدة دقائق من الأُنس والحوار مع الرعاة في المكان غادرنا باتجاه الشمال تتعرج بنا الدروب يميناً ويساراً لنصل إلى “ام سعدون الشريف”. وهي مدينة صغيرة بها سانيه في الجزء الغربي ودونكي في الوسط. وفي الحالتين ترتاد “مرحات الضأن” الماء على مهل ويرقد بعضها متعرضاً لحرارة الشمس المباشرة. تحرّكنا بعدها تتعرّج بنا الدروب كيفما اتفق لنصل إلى “أم سعدون الناظر” ثم المُرة والداير ومدينة طيبة تباعاً.
وجدنا في المُرة قطعاناً من الضأن تحيط ببئرين يصل عُمقهما لحوالي العشرين متراً. يسحب الماء من إحدى البئرين “بوابور” قيل إنّه هدية من منظمة “IFAD”.
مياه المُرة لا تصلح لشرب الإنسان كما يشير الاسم فهي تتميز بملوحة عالية. في مدينة طيبة تجوّلنا لبعض الوقت بالسوق وتناولنا أكواباً من الشاي والقهوة، ومن هنا أصبح الطريق إلى القاعة واضحاً. وصلنا بعد صلاة الظهر ودلفنا مباشرةً إلى سوقها ونسأل إن كانت هذه هي القاعة!!؟ قالوا لنا نعم ولكن هل تريدون القاعة “أم القرى” أم القاعة “ام صفاري”؟ قلنا لا فرق فنحن نريد سوق الملح ثم آبار الملح. اشترينا بعضاً من عبوات الملح حديثة الإنتاج من مصادر مختلفة ثم اتجهنا إلى الوادي الطيني المنحدر من الشمال إلى الجنوب بغرب المدينة. على امتداد طرف الوادي الشرقي تتوزّع عشرات الآبار ذات المياه شديدة الملوحة تصل أعماقها إلى أربعين متراً أو تزيد.
ينصف الماء المالح إلى ثقيل وخفيف اعتماداً على درجة الملوحة، وبناءً على ذلك يختلف سعر برميل الماء.
يُنشل الماء المالح من الآبار بالأيدي أو الحمير ويُفرغ في أحواض أسمنتية ريثما يتم بيعه ويُنقل للمنازل بعربات الكارو.
تُوجد في كل منزل مساحة مخصصة لإنتاج الملح. كان إنتاج الملح في السابق يتم بتسخين الماء إلى درجة الغليان ثم التبخر باستخدام حطب الحريق. لكن لفضل جهود منسوبي الطاقة الشمسية يتم تبخير الماء بالاعتماد على حرارة الشمس، وبذلك كسبت البيئة المحلية والغطاء النباتي قدراً من التعافي والتطوير بإطفاء نيران القاعة التي يقال إنها ظلّت مُتّقدة ليلاً لأكثر من مئة عام.
بعد جولة في الوادي والآبار بصورة خاصة، تم الاستماع لعدد من أهل المنطقة، بعدها بدأنا التحرُّك شرقاً باتجاه شرشار للعودة من هناك إلى بارا ثم المبيت بمدينة الأبيض ليصير علينا حال القائل:
بعد ما نجمع العصر أم سماح ملحوقة
شمسي تراها عاد شمس الشتا الممحوقة.