د. عمر آدم قبله يكتب : شجون حديث.. لمن يهمه الأمر (3-4)
17يناير2022م
الهجن معروفة في أدب الخليجيين بأنها جمال السبق ومفردها هجين، ولكن في بوادي شمال دارفور تُستخدم هذه المفردة نادراً وتعني الجمل الأصيل المميز الذي يعتني به صاحبه ويعتلي ظهره في المحافل والمناسبات وعليه كل زينة السرج من السجاد العجمي والفروة المصرية والتركيبة (قطع ود ماكن) والرقبية.
ويُعرف الهجين من هذا النوع بـ(جمل السرج) ليميز بذلك عن (جمل العدّة) وجمل الجحفة وجمل الريات وجمل الراوية وجمل البرية. ومثلما كان للخيل حوبتها، فإنّ لجمال السرج حوبات. فهي خلافاً للجمال الأخرى سريعة وقادرة على اجتياز المسافات ولذلك تُستخدم في الفزع بصورة رئيسية للحاق بالأموال المنهوبة. وتُصنّف جمال السرج كما يعلم الكثيرون إلى بشاريات وعنافيات وزبيديات.
فالبشاري إما أنه مجلوبٌ مباشرةً من الدامر وأسواق البشاريين بنهر النيل وشرق السودان، أو أنه مُهجّنٌ محلياً من ذات الأصول.
أما العنافي، فغالباً ما يكون مجلوباً من تمبول في الشرق وتُنسب العنافيات بصورة رئيسية إلي أهلنا من قبيلة رفاعة. إلا أن هذا النوع أيضاً يتم الحصول عليه محلياً عبر برنامج (الهِداد) والتهجين. وقد تكون مواصفات الإبل المُهجّنة أروع من مواصفات أصولها في مناطقها المعروفة.
جمال السرج عادةً لا تمشي مشياً عادياً كالجمال الأخرى على الطريقة المعروفة بـ(أم طقة). فهي دائماً تتحرك بنوع من الجري الخفيف الذي يُعرف بالطبقة، ولكن الطبقة نفسها كما يقولون (خشوم بيوت)، فقد تكون “خبا” أو “خببان” وهي طبقة حارة نسبياً وذلك لكسب الوقت. وقد تمّت الإشارة في مقام سابق لعصاة التوية المنسوبة لـ(علي تاكل چب)
خب يا الهيدنوك بالقيد ** قطعتْ رد النعام والصيد
ولمحمد أحمد ود جبريل:
أم الروس صباحك والغريد بي غربك ** زيد الخبة يا الوسمك فرس ومشربك
عندما تنتقل الطبقة إلى حركة أسرع من الخبة يسمونها (مغار) ويقولون الجمال غايرات. ولود الشريقاوي وصف لطيف في ذلك:
قمت هجرتو قلت من المغار أرتالو
خرط رسنو ورحل كلو وقطع شبالو
وعندما يكون الوضع طبيعياً تكون الطبقة هادئة ورائقة ويسمونها (الكُربيت) ويُقال الجمال “يكربتن” ويصف أحدهم تجدد أحواله بين الرفاهية والعسر:
يوماً كربتيت ويوماً أكلنا ربيت
ويوم نتقوت التابه وعليها نبيت
وهناك نوع من الخبيب يسمونه (الرقلي) ويُقال الجمال “يرقلن” ويعتبر عبد الله ود إدريس “الرقلي” غاية في المُتعة على متن الركائب وهو يقول:
ضقت ركبت طيارة وركبت سفينة
وابو نمر اليباني مرقبو من المينا
إيل ما بقالي زي “رقلي” النوايبو سنينه
الحُر البخلي الجالسة عنز أم نينه
ومن المفارقات أن ود المقبول قد قدم وصفاً لانين الجالسة أبهى وأبدع شاعرية حين قال:
(خلى الجالسة ترطن زي كمنجة وردي)
ويقولون الجمال “بقنّن” قنين، والقنين في الأصل عند أهلنا جكة لقطعان الصيد وخاصة الغزال “الحمّارية”. والقنين أوضح ما يكون في البشاريات. وقد ورد في حديثنا عن الثنائيات في شعر البادية عصاة التوية المنسوبة لإبراهيم “دقيش”
رقيص ناس ام سنونا غُر ** قنين ود البشاري الحُر
ويسمى القنين أحياناً بـ”أم تومتين” ويقولون الجمال شايلات أم تومتين
عبد المنعم آدم عيد هل تسمعني!؟
وتوظف سرعة الهجن لأغراض غير الفزع والاحتفالات أو ما يُعرف بـ”القطار” في الأفراح. فهي تُستخدم لاجتياز المسافات والوصول إلى الدمر أو الأهل أو مواطن الأحبة على طريقة مسادير الشرق ولذلك توصف الهجن بكثير من الأوصاف التي تنقل للسامع أو المستمع روعة التصوير أو التشبيه أو حتى التغلب على التحديات والطرق الوعرة. ومما يذكر لود “جبرين”:
كسار العتامير الوطاتهن هيشه
إقرِب بلدة الدمرن صباح لي عويشه
ومن تراث الرباعيات في البطانة:
يا فروج هضاليم الخلا البتناطن
عجل بينا أمسيت والمواعيد فاتن
وفي رباعية لا أذكر شاعرها وصف مشابه يقول:
رفع شنشونو فروجاً بحت الريش
كسر أم دودلي واتحدر على غبيبيش
يا داب باينك ألم الخديرة أم ديس
ويصف أحد شعراء أهلنا القريات سرعة هجينه
“سرعة بوكسي مية وأربعين امبيرو”
ولشاعر الهواوير ود المقبول وصف غاية في الروعة والطرافة لسرعة هجينه:
وقت ما اتحدر العتمور علي سيد ريدي
موديل خمسة طاردا الشرطة سايقو زبيدي
ولشاعر البطانة ود البنا رباعية تحمل وصفاً من نوع آخر فهو يقول
يوماً جيب ضراع ويوماً نكوس الكروه
ويوماً فوق قفا التيس اب جماجم ثروه
على فوسيبة الترس المقابل الدروه
إردح يا صبي الدينكا أب لباساً فروه
والذين أُتيحت لهم فرصة مشاهدة فتيان الدينكا في حلقات الرقص أو حلبات المُصارعة يعرفون مدى النشاط والحيوية ورشاقة الحركة التي اختارها صاحب الرباعية لوصف هجينه.
ويصف ود الشريقاوي إمعان راحلته في السُّرعة والرغبة في النجيع مُشبِّهاً الهجين بالهارب من السجن بقوله:
هيا يا كاسر السجن المرق غير ضامن
وصلنا النصدق لي القلوب احلامِن
ولشاعر مليط (أبو شوقي) وصف طريف أيضاً وربما غير مسبوق ولا أذكره جيداً يقول:
* والدوم غسل وردانو
أصبح بشبه الدابي البشابي لسانو.
ولأهل بوادي الإبل والهمباتة تلفت دائم نحو الدمر ومساكن التمدُن والفاقة، و”الفاقة” عند أهلنا تعني الروقة وراحة البال.
فـ”علي ود عيسى” يقول:
مدامر الكنو مصبوب صب * بعيد للدومتو قطران حب
ولود جبرين رباعية يختتمها بقوله:
تامات السماح حسبن على ديار فوجه
مد وديني يا الحوري أب دريجةً موجه
هناك رباعية تُنسب لـ(عوض سيد زريبة) وإن كنت لا أعلم لعوض سيد بَاعٌ في هذا المجال, تقول:
برد الشولي جي، حزم الجبال غطاهن
كب نزيلو روبات الشدر حتاهن
ديوف القرقع الطايب جلوسنا معاهن
انقطعن سلوك الوصلة من تالاهن
وعلّ انقطاع ما يُمكن أن نُسمِّيه مجازاً بسلوك الوصلة قد عكر هذه الأيام صفو ومزاج الكثيرين على ذات الطريقة المنسوبة لـ(ود الحاج مِرتين) متّعه الله بالصحة والعافية.
وكُل عام وأنتم بخير، ودمتم في حفظ الله.