تمر ذكرى رحيله الـ(26).. مصطفى سيد أحمد.. نحو جُغرافيا أخرى!!
كتب: سراج الدين مصطفى. 15يناير2022م
نوع من التحليق:
التمعُّن في تجربة الفنان السوداني الراحل مصطفى سيد أحمد هو نوع من التحليق والتحديق في عوالم تحتشد بالكثير من التكوينات المغايرة من حيث البناء الفكري والجمالي.. لأن مصطفى سيد أحمد لم يكنمصطفى فناناً مطرباً محدوداً في جغرافيا الشعر والموسيقى والتأليف الموسيقي واللحني، ولكنه أصبح كائنا معتديا على الكثير من الأبواب التي ظلت عصية.. لذلك فهو أقرب للفنان المفكر الذي يمتلك مشروعاً متكاملاً ووافياً للكثير من المتطلبات الروحية والشعورية والوجدانية.. لذلك التمسك بتجربة مصطفى رغم رحيله قبل سنين طوال هو نوع من التمسك بمشروع حياتي يرتكز على توفير القيمة الأساسية للإنسان .. ومن الظلم في تقديري أن نصف مصطفى بأنه فنان المثقفين أو تنميطه في خانة اليسار .. لأن غنائية مصطفى أكدت أنه وطن يسع الجميع بلا طبقات أو موازنات.. لذلك وجدنا أنفسنا وبالبديهة ننحاز لهذا الدفق الشعوري البديع.. لأن مصطفى استلف ألسنتنا وأصبح ناطقاً رسمياً بحالنا وهمومنا وتطلعاتنا.
البطاقة الشخصية:
تقول بطاقته الشخصية: مصطفى سيد أحمد المقبول مختار عمر الأمين سلفاب، من قرية ود سلفاب ـ الجزيرة ـ عام 1953م، قدم جده الأمين سلفاب من شمال السودان، منطقة الشايقية واستقر جنوب غرب الحصاحيصا على بُعد 7 كيلومترات منها، وغرب أربجي بحوالي 13 كيلومتراً ” أربجي القديمة” والتي تقع آثارها على النيل مباشرة، ثم تأسست أربجى الحديثة بحيث تكون القديمة بينها وبين النيل، وكان قدوم الأمين ود سلفاب للمنطقة حوالي عام 1700م. واستقر في مكان قرية ود سلفاب الحالية والتي كانت أصلاً قرية للدينكا، أبادهم وباء الجدري وما زالت هياكلهم العظمية ترقد تحت تراب القرية، إلاّ إذا أخرجها حفر المطامير أو أساسات المباني العميقة المعاصرة فتخرج مع حفنات من السكسك والخرز، عمل سكان ود سلفاب بالزراعة المطرية لبُعدهم عن النيل ولوفرة الأمطار وكان ذلك قبل مشروع الجزيرة.
فترة معهد الموسيقى:
التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وأكمل خمس سنوات بقسم الموسيقى “قسم الصوت” إلاّ أنه لم ينتظر حتى ينال شهادته الأكاديمية. متزوج وله طفلان “سامر وسيد أحمد” له من الأخوات سبع وشقيق توفي عام 1970م “المقبول ” وهو شاعر غنى له مصطفى. عانى من المرض كثيراً فقد لازمه الفشل الكلوي مدة طويلة “15 عاماً” أجرى خلالها عملية زراعة كلى بروسيا أواخر الثمانينات.. وصحيح أن مصطفى سيد أحمد لم يكن هو الفنان الذي وضع لبنة الغناء الأولى ولكنه كان امتداداً جمالياً للعديد من الأسماء التي ساهمت في صياغة وجداننا السماعي وغرست فيه الغناء المعافى والطاهر.. ورغم ذلك أحدث مصطفى طفرة هائلة على مستوى التفكير في شاكلة الغناء وإن كان البعض يعتبره مجدداً من حيث الطرح الجديد في المفردة الشعرية التي اتسمت بالحداثة والتجديد ولعله أيضاً يعتبر رائداً في إدخال الرمزية في الشعر والغناء وإن سبقه على ذلك محمد وردي في أغنية (الود) التي تعتبر الشكل الحداثي الأول والرمزي على مستوى الغناء السوداني الذي اتسمت مفردته في معظم الأوقات بالمباشرة والعادية.. ومصطفى بحسب خبراء الموسيقى لم يحدث تغييراً هائلاً على مستوى التأليف الموسيقي والألحان، ولم يكن أثره مثل محمد الأمين وإبراهيم الكاشف اللذين جاءا بأشكال موسيقية جديدة لم تألفها الأغنية السودانية، حيث كان محمد الأمين حاضراً ومجدداً عبر أغنيته (شال النوار) التي تعتبر فتحاً جديداً تطاول فوق جدار العادية.
تهديد عرش الكبار:
بعد أن حقق انتشاراً لافتاً هدد به عرش كبار مطربي السوداني، تعالت ظاهرته الفنية والموسيقية وقدرته على اختيار مفردة شعرية متجاوزة لحال السائد والراهن في الغناء السوداني، حيث تنامى صوت مشروعه الغنائي بقدر مدهش ووجد من الاحتفاء ما لم يجده من قبله ولكنه تعرض لانتكاسة جديدة بداية عام 1993 بالقاهرة وانتقل منها للعلاج بالدوحة، حيث ظل هناك يباشر عملية الغسيل الكلوى ثلاث مرات في الأسبوع إلى أن توفاه الله مساء الأربعاء 17 يناير 1996م.
نحو جغرافيا أخرى:
غنائية مصطفى سيد أحمد لم تلامس الوجدان السوداني وحده بلا تعدت المحلية وتحركت نحو جغرافيا أخرى.. لأنه أراد لها أن تكون لكل الناس بلا تمايز في العرق أو السحنة أو الدين.. أغنياته تصلح لكل زمان ومكان ولا تعترف بحدود الجغرافيا أو التاريخ لأنها ذات كيمياء خالصة له خاصية التفاعل مع كل وجدان إنساني سليم.. تجربة مصطفى سيد أحمد توقف عندها الكثيرون الذين ليس مكتوبا في جوازات سفرهم أن عيونهم عسلية أو ممنوعين من السفر لإسرائيل بحسب قرار إدارة الهجرة والجنسية السودانية.
عجاج البحر:
الشاعر المصري حسن بيومي قال معلقاً على قصيدته (ثلاث ورقات من اشجار يحيى) والتي اجتزأ منها مصطفى مقطعاً وتغنى به وعرف باسم (عجاج البحر): يا له من رائع , صوته يشبه موجة عريضة تطوف بكل حواف الكون ثم تتكسر الى ما لا نهاية. وتحدث عنه الموسيقار الاسترالي روس بولتر معبرًا عن دهشته من صوت مصطفى حينما اسمعه صديقه الشاعر عفيف اسماعيل احد تجليات مصطفى، فقال: أحسست بصوته مغموساً في شجن متواصل كأن هناك حريقا ألم بروحه انه يغني من القلب الى القلب. وتوقفت عنده الشاعرة وعازفة البيانو الانجليزية شيلا وهي تصف ما اعتراها حينما استمعت الى مصطفى سيد أحمد وهو يغني أغنية الشجن الاليم: (حينما كان يخرج من غرفة غسيل الكلى بمستشفى حمد ليذهب الى مسكنه مرهقاً كان يفرح وهو يجد الورود بانتظاره.
حالة تستحق التأمل:
في تقديرنا (كلنا) مصطفى سيد أحمد يستحق أن نقف عنده متأملين ومتدبرين ما أحدثه من تجديد وتطوير على كل الأصعدة الفكرية والموسيقية.. ومنذ رحيل مصطفى سيد أحمد، أسهب الجميع في دراسة تفاصيل تجربته الغنائية وكتبوا فيها ما كتبوا وقالوا فيها الكثير ولم يترك الجميع جزئية في حياته إلا وتطرقوا لها .. وخلال الأعوام التي تلت رحيل مصطفى كانت كل الصحف تقريباً تصدر ملفات خاصة عنه وظل يوم 17/1 هو اليوم المخصص لتلك الملفات، بل أصبح ذلك اليوم وكأنه يوم للبكاء على مصطفى سيد أحمد.