سراج الدين مصطفى يكتب :نقر الأصابع
15يناير2022م
ما بين هاشم صديق وأبو عركي
تجربتي القصيرة مع العمل في الصحافة وأجهزة الإعلام، أكسبتني العديد من العلاقات الإنسانية والاجتماعية والعملية.. بعض هذه العلاقات امتدّت وأصبحت أسرية .. ولكن هناك بعض الشخصيات كانت صادمة جداً حينما اقتربت منها .. ولو كنت أعلم أن القرب منها سيجعلني اكتشفها لما اقتربت منها مطلقاً ولاحتفظت بالصورة الذهنية الجميلة التي رسمتها لها قبل أن التقيها .. والنماذج في هذا الشأن كثيرة لا تُحصى ولا تُعد.
وفي كثير من الأوقات كنت أقول لبعض أصدقائي المقربين الذين أجدهم مندهشين بمبدع معين أن لا يقتربوا منه حتى لا تصيبهم الصدمة مثلي .. أو كما حدث لي مع الكثيرين .. ولكن يظل الفنان الجميل أبو عركي البخيت شخصاً مغايراً بالنسبة ولا تنطبق عليه حيثيات الصدمة التي ذكرتها عن بعض المبدعين.. وأبو عركي كلما اقتربت منه تجده أجمل من الذي سمعته عنه .. فهو إنسان حقيقي بكل ما تحمل الكلمة من مبنى ومعنى .. وهو فنان على درجة عالية من الخُلُق والأدب والتدين.
بعيداً عن الغناء الذي يمتلك أجمل وأوسم أدواته .. يظل الفنان الكبير أبو عركي البخيت واحد من أكثر الفنانين صدقاً في هذه الحياة .. فهو واضح وفي منتهى الشفافية والرقة .. أبو عركي يعتبر حالة إنسانية خاصة جداً، يتميز بصفات يندر وجودها في الوسط الفني .. ومن يعرفونه عن قرب يدركون القيمة الإنسانية العالية لهذا الفنان الجميل الذي لا يشبه سوى غنائيته الساحرة.
أبو عركي البخيت .. هذا الفنان الذي تتلاشى أمامه كل الكلمات وتتضاءل .. فهو أحدث ثورة كُبرى في الغناء السوداني .. وهو يُعتبر من أكبر المجددين أصحاب الفكر الموسيقي الجديد والحديث .. لذلك ظلّ حاضراً في وجدان الناس رغم غيابه الطويل عن أجهزة الإعلام .. وأبو عركي من تلك العينة التي نجد شغفاً عميقاً للبحث في تفاصيل حياته .. وهي حياة نموذجية لفنان أعطى ولم يستبق شيئاً.
لم أجد فناناً يهتم باحترام نفسه وتجربته كالفنان العظيم أبو عركي البخيت .. فهو يجعلني أتأمله واستغرق في ذلك كثيراً وأدخل في كثير من التحليلات في حال تجربته الغنائية والتي هي فكرية في المقام الأول وإن كانت معطونة بالعاطفة الدافقة .. أبو عركي من الذين يخططون للأغنية واتجاهاتها العاطفية والفكرية وقضاياها .. ومن يتوقف في قائمة الأغنيات الطويلة يجد أنه أمام مشروع إنساني محتشد بكل تفاصيل الإنسان الأغبش البسيط.
من خلال العلاقة الإنسانية مع أبو عركي البخيت، تمكّنت من معرفة قوة الخيال عنده وصراع الأفكار المثيرة.. وأهم من ذلك، اقترابي استشفاف الطاقات الخلاقة الكامنة في روح هذا الفنان البديع .. ومما لا شك فيه أن الاستماع لأغنياته باستغراق هو نوع من الاكتشاف لخبايا هذا المختلف بقدر كبير عن الآخرين.. ولعل أبو عركي من أكثر الذين يجيدون لغة الصمت وهو من أكثر المتحدثين براعة عن طريق الصمت الجميل .. ورغم اعتراضي على لغته الصامتة ولكنني أقدِّرها كثيراً واحترم بلاغتها التي ظلّ يمارسها على مدار السنين الفائتة.
وعلى الضفة الأخرى يكون الاقتراب من هاشم صديق .. هو الدخول الى عوالم جديدة ومختلفة .. فهو شاعر وسيم المفردة .. وعميق العبارة يتكئ على قاعدة ثقافية ضخمة أتاحت له معاينة المشهد الفني والثقافي بعدة زوايا .. لأنه في الأصل مبدع متعدد المشارب ومختلف الألوان .. فمن البديهي أن يتربّع وجدان الشعب السوداني لأنه خرج من رحم المعاناة .. وذلك يتّضح أكثر في مخطوطته جواب مسجل للبلد التي أعلن فيها البيعة كاملة غير منقوصة .. ولكنه ما زال يدفع ثمن تلك البيعة من صحته وراحته.
اذا كان هاشم صديق يجلس وحيداً في (تلك النيمة) ذلك لا يعني مطلقاً بأنه ابتعد عن الهم العام للبلد، فهو منغمس حتى أذنيه.. صمد هاشم صديق في وجه كل الرياح والأعاصير ولم ينهزم .. لم ينحن أو يستسلم .. وكان كما يقول (راكز زي أرض والجبهة بتبوس السما) .. ذلك كان شعاره الذي امن به واعتقد فيه .. ورغم محاولات التحجيم لكن شعره كان ينطلق في كل الفضاءات .. وكل ما منعوا له قصيدة من النشر ، تجد حظها من التداول الكبير بين الذين يتلهفون لكل حرف يكتبه.. كل تفاصيل الأشياء حاضرة أمامه .. ينظر إليها بعين العارف المستنير.
أكتب وفي ذهني يدور أسطوانة الخلاف القديم في قضية الحقوق .. وهو خلاف في تقديري لا يرقى الى كل الذي يحدث الآن بينهما .. واعتقد بأن المساحة مازالت قريبة ويمكن أن تقترب أكثر رغم سخونة الموقف .. فما بينهما من علاقة أسرية قديمة ومتجذرة كفيلٌ بأن يُعيد العلاقة لمسارها الصحيح.
\\\\\\\\\\\\\\\\\
تباريح الهوى .. محمد البحاري
الذكاء الاجتماعي للف