في صناعة الحاكم..!
أتمنّى أن يصل الدِّين إلى أهل السِّياسة، وأن لا يصل أهل الدِّين إلى السِّياسة”.. مُحمّد متولي الشعراوي..!
الفشل الاقتصادي والإفلاس السياسي الذي ثار عليه الشعب، ليس مُنعطفاً تاريخياً فحسب، بل دلالة فادحة على فشل النخب السياسية في صياغة مفهوم للحاكمية تحت مظلة ديموقراطية. صناعة الحاكم هي مشروع حياة متكامل، تعصِف أصغر الهنَّات – فيه – بأعرق التواريخ والسِّيَـرْ، لكن تقليب البَصَر في سِمات الشخصية السياسية السودانية يلخص بوضوح إشكالية الحاكم والمحكوم في هذا البلد. نحن – باختصار – دولة تغني لنفسها، وهي فوق ذلك لا تستطيع أن تطرب، أو تتظاهر بفهم مُوجبات الطرب في أغاني الآخرين..!
شخصية “السِّياسي” السُّوداني ومشواره مع فكرة القيادة مُنذ الأسرة إلى الحكومة هي خَير دليل عن أزمة اختلافنا تلك. فتاريخنا السِّياسي المعاصر لا يزال يتأرجح بين وَرَثة السيادة الطائفية وأبناء البُيوتات وأولئك القادمين من قُماشَة العامَّة – الثائرين على هَيْمَنة الطوائف وإرث الأسماء – إنَّما في البَدء والُمنْتَهى، ومع هؤلاء وأولئك، تَسُود ذات المآخذ والمحن..!
عند “عشوائية الطَّرح” و”فوضَوية التلَقِّي” و”ردود الفعل ذات الزوايا الحادَّة”، يلتقي الآتي من صُفوف العامّة ووارث السِّيادة الطائفية والقادم من بيوت الإرث السياسي، وإن اخْتلَفتْ المُبرِّرات وإن تباينت آليات التطبيق، هذا بعنجهيَّة السيد المُنزّه، وذاك بلا مبالاة الوارث المُنعَّمْ، وذاك بسخط القائد الثَّائر..!
لا يَختلفون في ذلك باختلاف مواقِعهم من الكراسي ولا يَتفاوتون فيه بتفاوُت مسافات خُطاهم إلى شارع القصر، الحاكم والمناوئ على حدٍّ سواء، فالجذر والمُنْطَلَقْ واحدٌ. حاكم اليوم هو مُعارِض الأمس، ومُعَارض اليوم هو حاكم الأمس ورُبَّما الغَد، وهكذا دواليك، إلى حين أظنُّه سيكون طويلاً، إن لم تهرع أجيال السَّاسة الشَّابة – بصرامة يُزامِلُهَا الاتّزان – إلى إعمال النظر في مبادئ تجويد صِناعَة الحاكم، ومن ثَمّ فك ورَتْق قُماشَة المَحكوم..!
الوطنية الحَقّة كانت ولا تزال تكمن في التّفريق الصّارم بين الدولة كأنظمةٍ مُتعاقبةٍ والوطن كجَذرٍ وانتماءٍ – لا ينبغي أن يتَقاطَع مفهوم الولاء له مع أيِّ تَبعيَّةٍ أو مُروقٍ سياسي – لكن ساستنا يفعلون..!
موضوعيَّة الطَّرح، واتّزان التَلِّقي، والتفريق الصارم بين الولاء الوطني والولاء السياسي، مبادئ يَنبغي أن تُضمّن في مناهجنا الدراسية، فالفهم العميق لمبادئ علاقة الحاكم بالمحكوم يَتكوّن في تلك البدايات، وقديماً قيل “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”..!
هذا فيما يَختَص بجذريَّة الحُلُول لصناعة ساسة الغد، أما المُتسايسون – وبعض السياسيين المُتنطِّعين- الذين ما فَتِئُوا يتَعاقبون علينا بالتَّناوُب، فلَنَا في عَدائهِم الأَزَلي للحكمة – والموعظة الحسنة – حُسْن العَزَاء..!
منى أبو زيد