ما بين الداخل والخارج
شغلتْنا شواغِل الهم الداخلي وتطوّراته، عن متابعة وربط ما يجري في بلادنا بالتحوّلات الجارية في الإقليم، إذ لا يُمكن أن يكون ما يحدُث لدينا مُنفصلاً من الناحية الجيوستراتيجية عن الترتيبات والتدابير في محيطنا الأفريقي والعربي، خاصة أن مرحلة إعادة التركيب قد بدأت بالفعل في مساريْها العربي والأفريقي، لذا غرِقنا في تفاصيل الداخل دون أن ننتبِه كثيراً لما هو أكثر تفصيلاً وتفسيرًا لما لدينا في الخارج .
جرى التخطيطُ للتغيير بالكيفية التي تمّت بها من حراك شعبي ينتهي بما تمخّض في النهاية منذ الهزيع الأخير للعام 2013م عقِب فشل تحرّك سبتمبر من ذاك العام، وتولّت المخابرات البريطانية حانئذٍ صناعة التوليفة الشعبية لإنهاء نظام الحكم وتدريبها. وحتى لا يذهب التفكير أنها مؤامرة بريطانية فقط ضد السودان، فإن المخابرات والدوائر التي تصنع القرار في الإمبراطورية التي لم تكن تغرُب عنها الشمس، كانت تستهدف بمشروع التغيير في ذلك الوقت ثلاث دول هي إثيوبيا وزيمبابوي والسودان، وقامت الفكرة على صناعة ثورات وتحرّكات شعبية تؤدي في نهاية الأمر إلى الضغط على الأنظمة وإنهاكها بترافُق تدابير أخرى تؤدي إلى سقوط الأنظمة أو الانخراط الفوري في عملية التغيير من الداخل .
وعُهِد إلى أربع منظمات بريطانية كبرى عملية تأهيل وتدريب المنظمات الشبابية والتنظيمات السياسية المعارِضة ذات التوجّهات اليسارية في بلد مثل السودان، وذات الارتباطات الخارجية الوثيقة في البلدين الأخريين.. واعتمدت الحكومة البريطانية 179 مليون جنيه إسترليني لدعم عمليات التدريب والتأهيل السياسي والنشاط الاستخباري والتجنيد للحلفاء والدعم الإعلامي خاصة في مجال الإعلام الجديد، وبالفعل بدأت هذه العملية المُعقّدة، بريطانيا ترعى مشروع التدريب والتهيئة، ودول غربية أخرى لها أدوار وبرامج مختلفة تضطلع بها في ذات الاتجاه والمقصد ..
في ذات الوقت، كانت المنطقة العربية تشهد تحوُّليْن أساسيين، أولهما سرعة إدماج البلدان العربية في مشروع التسوية والتطبيع، والتعجيل بانكفاءة الثورات العربية وطي ما تبقّى من الربيع العربي لصالح المشروع التطبيعي الذي لا يتوافَق مع حرية الشعوب، وكان لابد من ترتيبات تُنهِي وجود الجزُر المعزولة وسط محيط عربي هائج حريصة على التصالُح مع العدو الصهيوني، وظلّت القوى العربية الأكثر حماساً وهرولةً نحو صناعة الواقع السياسي الجديد، تعمل في ذات الاتجاه لضمان إدراج السودان في سياقات التحوّلات في المنطقة بغض النظر عن طبيعة النظام القادم للحكم. وكانت الرغبة الجامِحة أيضاً في إعادة هندسة الواقع السياسي في القرن الأفريقي وجوار السودان الإقليمي خاصة مع ما يجري في ليبيا، حيث كان يُراد عربياً خاصة من الأطراف القريبة لليبيا، تسهيل سيطرة اللواء المُتقاعِد حفتر للهيمنة على هذا البلد العربي الأفريقي الغني، وطبقاً لتقارير دبلوماسية غربية، فإن الملف الإقليمي والعربي نظراً لظروف دولية عُهِد في أجزاء منه لأطراف إقليمية تعمل لصالح القوى الدولية المُهيمِنة على القرار العالمي، ولأن موقع السودان ودوره مهم للغاية عربياً وأفريقياً، فالعمل على تركيبه في النسق الجديد المُعَد هو أمر استوجَب صناعة ثورة شعبية تُطيح نظامَه على طريقة الربيع العربي، وفيها أصداء بعيدة لعملية نزع السلطة من الدكتور مُصدّق في إيران 1952.