13يناير2022م
منذ سقوط الثورة المهدية التي أعقبها الحكم الثنائي الإنجليزي المصري وإلى يومنا هذا، مروراً بكافة الأنظمة والحكومات الديمقراطية منها والعسكرية، مَرّ السودان بتجارب دستورية مُتعدِّدة، ويُعتبر الدستور الذي وضعته بريطانيا ومصر أول وثيقة دستورية تُنظِّم الحكم وتحدِّد مستويات وصلاحيات المؤسسات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، ثم جاء بعد ذلك دستور الحكم الذاتي لعام 1953م، وكان هذا أول «تمرين» دستوري للسودانيين ما قبل الاستقلال، وعندما نال السودان استقلاله في عام 1956، قامت القِوى السياسية في ذلك الوقت بإجراء تعديلات طفيفة عليه، بعد انقلاب الفريق عبود عام 1958، عطّل الدستور وحُكمت البلاد بالأوامر والمراسيم الجمهورية الدستورية التي يصدرها المجلس الأعلى للقوات المسلحة الى أن اندلعت ثورة أكتوبر وأعيد العمل بدستور 1956وسمي بدستور 1964 الى أن ألغي بعد الانقلاب العسكري للرئيس نميري في مايو 1969م، في العام 1973 أجاز الاتحاد الاشتراكي باعتباره الحزب الحاكم الأوحد، الدستور الدائم والذي استمر حتى انتفاضة 1985، وفي نفس العام تمّت إجازة الدستور الانتقالي الذي أُجريت بموجبه انتخاب الفترة الديمقراطية والتي فاز بها بالأغلبية غير المطلقة حزب الأمة القومي حتى انقلاب الإنقاذ في العام 1989 وبمُوجبه تم تعطيل الدستور وأصبحت تُدار الحكومة بالأوامر والمراسم الجمهورية، ومن بعد ذلك أُجيز العمل بدستور 1998 حتى تم توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق في العام 2005 وقد تم التوافق على صياغة دستور جديد يستوعب التغييرات التي طرأت على الساحة السياسية بعد اتفاقية السلام، وأجيز العمل بالدستور الانتقالي حتى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، وبعد سقوط الإنقاذ عطّل العمل بالدستور لتحل محله الوثيقة الدستورية التي وُقِّعت بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير.
بعد هذه «الفذلكة» التاريخية، نجد أن السودان حُكم منذ الاستقلال وحتى الآن بتسعة دساتير ولم تصل القوى السياسية الى دستور دائم، كل ما أتى نظامٌ قام بإلغاء الدستور السابق والبدء في إجراء دستور جديد، وهذا يؤكد الى أي مدىً فشل النخب والساسة والأحزاب السياسية، وبالتالي هذا «التخبُّط» الدستوري كان سبباً مُباشراً في التخلُّف والتأخُّر الذي نعيشه الآن، وفي عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني الذي تشهده البلاد، إذا نظرنا إلى تجارب الدول، نجد أنّ اليابان عمر دستورها أكثر من ثلاثمائة عام، والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مائتي عام، لم تُجر أي تعديلات على دستوريهما، بالتالي باتت هذه الدول متقدمة ومستقرة بفضل احترام دستورها وقوانينها، من الطبيعي أن يؤدي احترام الدستور وتقديسه الى استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني، احترام الدستور يقود إلى إجراء الانتخابات الحرة والنزيهة مع احترام نتائجها، ومن ثم الانتقال السلس لمن يُفوِّضه الشعب عبر صندوق الانتخابات وبهذا تُفوِّت الفرصة على دعاة الانقلابات.
مما لا شك فيه أن عدم احترام الدستور «الوثيقة الدستورية» وانتهاكها وتعديلها يفقدها سموها وقدسيتها، وبالتالي لن يكتمل التحول الديمقراطي كواحد من مطلوبات الثورة إلا بإلغاء الوثيقة الدستورية «المُمزّقة»، وعوضاً عنها صياغة دستور دائم يتّفق حوله وعليه كافة القوى السياسية، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني المحلول والإسلاميون الذين شاركوا في إنجاح الثورة المجيدة أو الذين لم يشاركوا حتى يكون هناك إجماعٌ من جميع القوى السياسية، ولن يتأتى ذلك إلا بالجلوس على مائدة مستديرة تُناقش فيه قضايا الحكم وكيفية صناعة دستور دائم عبر لجنة مستقلة تُكوّن عبر توافق كل القوى السياسية من الخبراء المُحايدين القانونيين المستقلين دُون أي تأثير أو فرض وصايا من أي جهة كانت.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،،،