لن تحتاج لإبحار عميق في لُجّة السياسة لتفهَم ما الذي يجري، ولماذا تتعثّر المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، وتتعسّر عملية توليد توليفة حكومية وسُلطوية تجمع الطرفين، فالواضح أن كل طرفٍ له أهدافُه ومطلوباتُه، وعليه يحرص على اللعب جيّداً بأوراق اللُّعبة التي يمتلكها، بجانب أن كل طرف يفهم بشكلٍ جيّد ماذا يُريد الطرف الآخر. وهوامش المناورة في هذا السِّجال تتحدَّد تقابُلياً، كل شيء مكشوف وفقاً للقواعد المتوفّرة والمعلومة، ويحذر كل منهما على ألا يتجاوز حدود ما يُريده ويكسبه، فالمجلس العسكري وِفق حسابات بسيطة للغاية قدَّم مُبكّراً ما يستطيع تقديمه من اعتراف بالحرية والتغيير واعتمادها مُمثِّلاً للمُحتجّين والمتظاهِرين، ومن قادوا التحرّكات الشعبية التي أدّت للتغيير، وأجرى جراحات في جسده لترضية هذا التحالُف، وأطلق من الأقوال والتصريحات وبعض الأفعال، ما فُهِم وعُدّ أنه لا خِيار له في اختيار شريكه في الفترة الانتقالية غير الحرية والتغيير، وبعدها لم يجتهد المجلس العسكري في انتظار الشريك عند منعطف الطريق ليرى ما الذي يستطيع تحالُف شذر مذر أن يُقدّم..؟
غير أن تحالُف الحرية والتغيير، لاعتلالٍ في عصَب تفكيره المركزي الذي صوَّر له أنه يُمكن أن يقتلع السلطة بسهولة من بين براثن شريكه الذي أنشب مخالبه فيها بحكُم الضرورة والأمر الواقع وواجب التغيير نفسه الذي لعِب فيه المجلس العسكري دورًا رئيساً، لم يستطع التحالُف السياسي أن يُمارس حرفة السياسة كما ينبغي، فبدل أن ينتهِج نهجاً سياسياً حاذِقاً يُراكم النقاط لصالحه نقطة نقطة، يأخذ ويُعطي، ثم يأخذ، تقمَّص دور التاجر الجشِع الذي يُريد أن يأخذ كل شيء من أيدي العسكر، ولَم يدرِ أنه على مرِّ التاريخ الإنساني أن العسكر وهم في قِمّة فوران القوة والسلطة لا يمكنهم أن يعطوا كل شيء في استسلام مخزٍ لمدنيين للتو تهجّوا ألف باء تاء السياسة ..!
بِبساطة سقطت قوى الحرية والتغيير في أول المضمار، وفِي اختبار سهل، لم تنفعهم أقدام وعقول لاعبين كبار لعبوا في صفّهم، فالحزب الشيوعي رغم أنه ذو تجربة وخِبرة إلا أنه طاعُن في السن، قضت أمراض شيخوخته السياسية وخريف عمره أن لا يتذكّر شيئاً من دروس التاريخ السياسي، وكيفية التعامُل مع أصحاب الأحذية الثقيلة، و(البوت) له وطأة قاسية على دماغ الحزب الشيوعي، كذلك السيد الصادق المهدي وجد نفسه كزعيم عتيق وكحزب عريق وسط جوقة من الهُواة لم يسلكوا درب السياسة بعد، فلم يتركوه يُقدّم أفضل ما عنده، فصار مثل العقاب الهرِم لا يستطيع فردَ جَناحه ليُحلِّق، ولا يلتقط شيئاً بمنقاره الثلم… فأضاعهم وأضاعوه ..!
أما حزب المؤتمر السوداني، فهو وافِدٌ جديدٌ في عالم ساس يسوس، مُستجد نعمة في حلَبة الثورة، يشبه عارِضة الأزياء الطائشة، تظن أنها كلما تعرَّت أكثر زاد الالتفات إليها، فلم تُحسِن العرضَ، ولَم تكسب رضى الجمهور، وهو حزب انتفخ كبالون أهوج حملته رياح الوهم إلى أعلى فَتاهَ في فضاء شوكيٍّ أصغر شوكة يُمكن أن تخترقه وتُعيده إلى الأرض جُثّةً هامِدةً ..
ما يُسمى بتجمع المهنيين، هو تفسير ركيك للغاية لمَتن الحزب الشيوعي، مُجرّد غبار ثارَ مالِئاً الساحة دخلت ذرّاته الأعين ولوَّث الحياة العامة، اعتقد قادُته وممثلوه أن مجرد الصّياح في الطرقات واعتلاء منصات الخطابة الباهتة وترديد الشعارات الفجّة السمجة والأكاذيب المهترئة، هي التي تجعل السلطة تخرج من حنايا البزّة العسكرية وتُهرول في طلبهم مُنقادة إليهم تُجرِجر أذيالها …
هي حال السياسة عندما تفقد قدرتها على التعامُل مع الواقع، وفهم ماكينزماته المتنوّعة، فكل هؤلاء عندما أزاحوا المزلاج ودخلت الحركات المسلحة واستوى الجميع على جودي التغيير، لم يحسبوا أمراً واحداً أن السلطة فتاة حسناء يكثُر خُطّابها وقد يقتتلون دونها، لكن من يكسب واحد فقط، فهي لا تقبل القسمة الضيزى، ولا يمكن تقطيعها (كالمرارة) لتلُوكها كل الأفواه والأسنان والألسن.
السياسة والسلطة معزوفة مُعقدّة النوتة لكنها سهلة الهضم، مَن تعلّمها وتذوّقها أجادَها ومَن جَهِلها صار تجمّعاً مهنياً وحِلفاً سياسياً ذهب لحفلة تنكُّرية مرتدِياً زي الحرية والتغيير.