نبيل البيلى يكتب : صفعة ضمير!!
11يناير2022م
عندما كُنت في الثانوية، كان لدينا معلم نطلق عليه اسم الجنتل مان، وكان هذا اللقب قد ابتكرته لهُ تهكماً عليه، فقد كان يرتدي الملابس القديمة ويستقل دراجته الهوائية الشبه هالكة، كما كان بخيلاً جداً على نفسه لدرجة انه يرتدي حزاماً شبه ممزق وقميصا ابيض مائلا للإصفرار لكثرة ارتدائه وبنطالا عفا عليه الزمان؟
كان اشبه بالمهرج من أن يكون أستاذا في المدرسة.. انا واصدقائي ننتظر وصوله بشكل يومي إلى المدرسة ونهتف بين الطلاب جنتل مان، جنتل مان.. وحتى يبدأ الجميع بالضحك ونضيع بين حشود الطلاب لكي لا يجدنا.. ولكن ما يعكر صفوه المرح هو انهُ دائماً ما يكون غير مهتم لكل هذه السخرية!!!
تباً له رغم انهُ عديم الإحساس وكسيف الأحوال يتمتع بثقة عالية الوغد..
مضت الأيام وقاربت الامتحانات النهائية على الاقتراب، إلا إن تدهور حالة أمي الصحية فجأةً جعلتني أعيش في حالة قلق وحزن وبعد أن شخَّص الدكتور بأنها مصابة بتلف الكبد ونقلها للمستشفى ووجودي بقربها على طول الأيام عشت أقسى وأسوأ أيام حياتي، حتى إن أصدقائي الذين كنت أمزح معهم أغلب أوقاتي لم أرهم منذ أيام، وخصوصاً بعد أن أخبرتهم بأني بحاجة لمبلغ من المال من أجل العملية المكلفة، فبعد وفاة والدي استمرينا بالعيش على راتبه التقاعدي البسيط، لكن تكلفة العملية أكبر من ان يوفيها هذا الراتب.
وبعد مضي خمسة أيام في المستشفى، تفاجأت بوجود المعلم المضحك وكالعادة نفس الملابس والحزام، يا ربي لست بمزاج يسمح لي بالضحك حتى جاء باتجاهي وكأنه يبحث عني!!!
قائلاً: مرحباً ابني حسام كيف حال والدتك؟
لقد قمت بسؤال أحد أصدقائك وأخبرني بما تمر به….
تفاجأت وصدمت من هذا السؤال الذي لم يسألني عليه احدٌ منذ ايام حتى أقرب الأصدقاء الذين كنت أظنهم اخوتي قد اختفوا، تلعثمت بالإجابة وقلت الحمد لله بخير شكراً لك.
واستمر بالكلام قائلاً، يا بني انا منذ أن علمت بأمر أمك من طلاب المدرسة لم يهدأ لي بال لهذا وانا منذ ايام قمت انا والمعلمون بجمع هذا المبلغ الذي تستطيع الاستفادة منه من أجل إجراء العملية.
لم استطع السيطرة على دموعي، لا أعرف ان كانت هذه هي دموع الندم أم دموع الفرح والعرفان على هذا الفعل العظيم، رغم تعاملي الفظ طوال هذه السنين ووصفه بأقبح الأوصاف، الا أنه أعطاني درساً في الكرم والجود لن أنساه ما حييت، غادر الاستاذ بعدها، مؤكداً على الاتصال عليه في حال احتاج لأى مساعدة.
كان المبلغ الذي استلمته مع المال الذي أملكه قد استوفى إجراء العملية، والحمد لله تمت العملية بنجاح وتحسّنت حال أمي.
في ما بعد، اكتشفت بأن المعلم كان دائماً ما يستقطع نصف راتبه من اجل التبرع به للعوائل الفقيرة والمتعففة، لهذا لا يبقى لديه من المال سوى الشيء البسيط الذي يُخصِّصه فقط لشراء الطعام لهُ ولعائلته، وكأنّه قد ركل هذه الحياة بركلة الجود والعطاء.
لم أتخيّل أن أجد مثل هذا الإنسان على أرض الواقع، لطالما سمعت عنهم قديماً حتى خُيِّل لي بأنهم من الوهم، لكن هذه هي الحياة تصفعك في لحظة ما دون سابق إنذار!!
غادر الأستاذ بعدها، لكني لم استطع مغادرة هذا الموقف الذي بقي عالقاً في ذاكرتي كقلادة من النور ترشدني وسط الظلام الذي كنت أعيشه..!