قراءة : أحمد طه صديق
أحداث عاصفة منذ ليلة الثامن من رمضان بدأت بوابل من الرصاص أطلقت تجاه المعتصمين في ساحة القيادة العامة للقوات المسلحة، مخلفة عدداً من القتلى والجرحى من قبل قوة مسلحة اختلف المراقبون في تحديد هويتها، ثم تكرر السيناريو في موقع آخر، الحدث الدامي ألقى بظلاله القاتمة على شباب المعتصمين ومؤيديهم وقوى الحرية والتغيير التي تتزعم هذا الحراك، الأمر الذي حرك مراجل الغضب الثوري لدى شباب الثورة ودفعهم للمسارعة بقفل العديد من الطرق الحيوية بالعاصمة الخرطوم، الأمر الذي أدى إلى اختناقات مرورية حادة سببت معاناة لمواطني الولاية، وأحدثت لديهم عدم رضا للغالبية منهم، حيث تمددت المتاريس والحواجز حتى في الأحياء السكنية والطرق المتفرعة منها، سارعت القوى المعارضة للثورة للعزف عليه واتخذته مدخلاً للهجوم على قوى الحرية والتغيير واعتبرته وكأنه مؤشر لانحدار مسيرة الثورة نحو طريق شائك قد يقود البلاد إلى قاع الفوضى والانفلات الأمني الذي يصعب كبحه والسيطرة عليه كما ينبغي، وتوسع هذا الخطاب التحذيري بكثافة خاصة عبر الميديا الإلكترونية والمداخلات في الأجهزة الإعلامية المختلفة والصحف اليومية، كما نحا هذا الخطاب إلى تصوير الأحداث بين معسكرين متضادين، الحراك الشبابي وقيادته من قوى التغيير والمجلس العسكري، وليس كشركاء في صناعة الثورة، وأن قيادة الحرية والتغيير تنعطف بالحراك الشبابي وتقود سواعده الفتية إلى وجهة معادية للعسكر عامة، كمدخل للانفراد بالسلطة، في ثياب مدنية تتخفى في ثياب حزبية مناهضة للدين وكافة القوى السياسية المعتدلة التي لا تقف في خندقها الضيق بحسبما ترى.
كما صورت عدم اندفاع المجلس العسكري في التصدي الفوري والقوي لبعض الانفلاتات الشبابية في الشارع باعتباره ضعفاً وخضوعاً لقوى الحرية والتغيير، وازداد هذا الخطاب حدة حين نجح طرفا التفاوض المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في التوصل إلى نقاط إيجابية بعد التوصل إلى هيكلة السلطة ونظام الحكم خلال الفترة الانتقالية ومهام مستوى السلطات الثلاث، عبر مجلس السيادة والوزراء والبرلمان، وتحديد نسب المشاركة التي كان فيها نصيب الأسد لقوى الحرية والتغيير في السلطة والبرلمان القادم، الأمر الذي اعتبرته القوى السياسية الأخرى خارج منظومة قوى الحرية والتغيير بأنه إجحاف في حقها، وأن قوى الحرية لا تمثل كل القوى السياسية حتى تفوز بتلك القسمة الضيزى، كما يعتبرونها، كما تحركت بحماس أكثر ومعارضة سافرة التيارات الإسلامية مثل المؤتمر الشعبي وقوى الحركة الإسلامية السابقة، بل حتى المؤتمر الوطني المحظور من المشاؤركة في الفترة الانتقالية برافعة الثورة الشعبية، بالإضافة إلى تيارات سلفية تجنح نحو الإسلام السياسي مثل تيار جماعة الشيخ د. عبد الحي يوسف وحزب دولة القانون والتنمية بزعامة د. محمد على الجزولي وحزب الإصلاح بزعامة غازي صلاح الدين، والناشط الشيخ حسن رزق، وتيار ما يعرف بعشرين عشرين الذي يضم أحزاباً وتيارات نشأت في العهد الإنقاذي، لكنها تقول إنها ستنازله انتخابياً في الانتخابات، التي كان يسعى النظام البائد بعزم أكيد لتنظيمها بل متمسك بها حتى في ظل الاحتجاجات الشعبية الأخيرة.
استقطاب حاد
وتوسعت التيارات المعارضة لاتفاق العسكري وقوى الحرية والتغيير، حيث خرجت يوم الجمعة الماضي جموع من المصلين في إطار ما يعرف بتيار نصرة الشريعة ودولة القانون، انطلقت من خمسة مواقع من العاصمة، مؤكدين على سلمية حراكهم وتأكيدهم على مكافحة الفساد والقصاص من القتلة، بل هتفوا بشعار الثورة حرية عدالة سلام، لكنهم أضافوا شعارهم الأساس وهو الشريعة الإسلامية، وقالوا إنهم لن يقبلوا بدكتاتورية جديدة ممثلة في حكومة الحرية والتغيير، بعد أن صاموا لمدة ثلاثين عاماً من القهر في ظل النظام السابق، كما هتفوا بعبارة (لن تحكمنا قوى اليسار)، في إشارة إلى تجمع قوى الحرية والتغيير ، رغم أنه يضم العديد من القوى السياسية غير اليسارية ، على رأسها حزبا الأمة والاتحادي المنشق عن تيار الميرغني، والحزب القومي وغيره من التيارات والأفراد المستقلين.
كما وصف د. عبد الحي الاتفاقية بين المجلس العسكري وقوى التغيير بأنها خائنة وظالمة، كما دعا إلى تسيير مسيرة أمس السبت.
كذلك ظهرت العديد من التيارات الصغيرة بأسماء تحمل في إطارها الشكلي أنها تمثل تجمعاً وتياراً مناهضاً للاتفاقية، لكنها كما يرى المحللون أن مثل تلك الكيانات المصطنعة تولد عادة من رحم الثورة المضادة، وأذرع هلامية الغرض منها إحداث مزيد من الاستقطاب الحاد تجاه المجلس العسكري، حتى يتراجع عن أهم بنود الاتفاقية مع قوى الحرية والتغيير.
من يملك كروت الضغط
وفي تلك الأجواء المتوترة والاستقطاب الحاد على كل طرف في الجانبين العسكري وقوى الحرية والتغيير، من المنتظر أن يدخلا المفاوضات مجدداً لحسم بقية النقاط العالقة بينهما بعد أن أحدثا اختراقاً كبيراً في الجلستين السابقتين، وكلاهما يحملان كرتاً للضغط، فالمجلس العسكري بدا هذه المرة في موقف أكثر قوة نسبياً بالنظر إلى الأجواء السابقة في الساحة السياسية، التي شهدت تصعيداً ثورياً من شباب الثورة، مطالبين بتسليم السلطة للمدنيين وفق مشاركة محدودة للعسكر والدعوة لملاحقة رموز النظام السباق واعتقالهم وإبعاد عناصرهم المؤثرين من منظومة دولاب العمل التنفيذي، بينما يدخل المجلس الآن بعد أن هدأ أوار التصعيد الثوري نسبياً، ووافق الثوار على إزالة المتاريس خارج دائرة الاعتصام، بل إزالة ونظافة الأنقاض المترتبة منها، كذلك فإن ارتفاع عدد من التيارات المعارضة للاتفاق مع قوى الحرية والتغيير، وتنظيمها لمواكب وإن صغر حجمها وتعالي أصواتها من خلال بعض المساجد كلها تمثل مواقف قوة جديدة للمجلس العسكري، كما أن التقارب بين المجلس العسكري وبعض الدول العربية المؤثرة في المنطقة كالمملكة العربية السعودية والأمارات العربية ومصر ، كلها تصب في ميزان القوة للمجلس العسكري، مما قد يعزز الموقف التفاوضي للعسكري.
كروت قوى الحرية والتغيير
بالرغم من أن المجلس العسكري بعد عدد من المتغيرات في الساحة كما ذكرنا، يبدو في حالة أفضل مما سبق، وأنه بالمقابل بدت قوى الحرية والتغيير نسبياً في موقف أقل من ذي قبل بعد تزايد الرفض من قبل بعض القوى السياسية والثورة المضادة، على مشروعها وعلى الاتفاق الذي أبرمته مع المجلس العسكري من خلال الخطاب الساخن والصوت العالي ومن خلال الوسائط المختلفة والمواكب الاحتجاجية الأخيرة، علاوة على التكتيكات الأمنية الماكرة التي قامت بها عناصر النظام البائد بغرض دق أسفين بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، بل حتى لدى الرأي العام، فقد حدثت العديد من التفلتات التي حُسبت على شباب الثورة مثل التهجم على بعض منسوبي النظام السابق بالضرب ومحاولة توصيل رسالة سالبة أن قياد الحرية والتغيير ترفض الدين كما يروجون، لكن بالنظر إلى المحصلة النهائية تبدو قوى الحرية والتغيير أنها ما زالت تمتلك كرتاً ليس من الممكن التقليل من شأنه، وهو وقود الثورة الشبابية والمناوئين للنظام السابق من جل الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية المختلفة، والتي تشكلت في العقل الجمعي الجماهيري من تراكمات مزمنة منذ ثلاثة عقود خلت، ترفض أي تقارب واستنساخ للتجربة المقبورة تحت أي لافتة وأن غلفت بالسلوفان.
كذلك تملك قوى الحرية كرت المجتمع الدولي الرافض لحكومة عسكرية، أو تسكين جديد لقوى الإسلام السياسي المتمثل في قوى الإنقاذ السابقة، فضلاً عن أن تلك القوى الدولية تدرك أن الشريحة الشبابية الرافضة للنظام السابق تمثل نسبة عالية جداً من السكان، باعتبار أن أكثرهم موالون للثورة كما أنهم يمثلون مستقبل الحكم في السودان، وبالتالي الخارطة الجديدة التي تشكلت في أعقاب التجربة الإسلامية الفاشلة في الإنقاذ وتراجع الأحزاب الطائفية في السودان بفعل تيار الوعي والتعليم .
من هنا يرى المراقبون وربما القوى الدولية إن إفشال أي اتفاق بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري في التفاوض القادم وفق المعطيات السابقة يعتبر قراءة غير صحيحة، إذ أنه قد يرجع البلاد إلى المربع الأول، فقد تنظم قوى الحرية والتغيير مزيدا من التظاهرات على مستوى المدن والأحياء والولايات نهاراً وليلاً وربما إشهار عدد من الإضرابات في مرافق الدولة، وإن كان محدوداً بفواصل زمنية، وهو أمر سيؤثر في الاستقرار، ولن تكون الآلية الأمنية كافية لكبح تلك التطورات تماماً كما حدث إبان النظام السابق، الذي حشد عددا كبيراً من قواته وعمل آلة القتل والضرب والاعتقال وتعذيب المعتقلين، وكلها تطورات ستقود البلاد إلى هاوية يصعب توقع مآلاتها ، فضلاً عن العقوبات الدولية التي من المتوقع أن تشهرها الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
الوفاق هو الحل
عليه، وفق كل ما ذكر، فإن أي مراهنة للحل تتجاوز إحداث اتفاق مُرضٍ بين الطرفين، المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، سيعتبر سباحة ضد التيار، وإن علت بعض الأصوات المعارضة وإن شابها الهياج الأعمى.