يُميِّز شعره السُّهولة والوضوح والخلو من التعقيد: عبد الواحد عبد الله.. شاعر “اليوم نرفع راية استقلالنا”
وثّق له: سراج الدين مصطفى 8يناير2022م
(1)
الكتابة عن عبقرية الفنان محمد وردي، هي بالضرورة كتابة عادية ومكرورة وربما لا تحمل جديداً، فالرجل قدم كل ما يؤكد على عبقريته وسطوته وتجاوزه، لذلك من البديهي أن تجده حاضراً في وجدان الشعب السوداني رغم الغياب، وسيظل رمزاً للتجديد والمثابرة في تقديم طرح غنائي لا يتلف مع الزمن، ولعل كل مُنتجات وردي الغنائية عليها ديباجة مكتوب فيها (صالح لكل الأزمان).. وأكثر ما يُثير في محمد وردي هو قدرته على الشوف بعيداً، كفنان مستنير يفكر بذكاء خارق غير معتاد، ومن يستمع له يلحظ أن أغنياته لا تعرف التثاؤب ولا يصيبها الوسن، لذلك كل أغنية عند محمد وردي هي مشروع حياتي وفلسفي، لأن اختيار المفردة واللحن عنده يمر بفلترة دقيقة لذلك كل أغنياته باقية وخالدة، فهو غنى لكل المواضيع الحياتية في أغنياته المنتقاة بعناية وذكاء، فهو بغير الأغنيات العاطفية، كانت سطوته أعلى من حيث منتوج الأغنية الوطنية من (حيث الكم والكيف) في تزاوج ومُمازجة مدهشة كفلت له الريادة في مضمار الأغنية الوطنية.
(2)
اشتهر وردي بترديد الأغاني الوطنية.. حيث تغنى لهذا الوطن بعدد كبير من الأغاني الوطنية، ولعل أبرزها نشيد (اليوم نرفع استقلالنا) وهو من أشهر الأغاني الوطنية التي وجدت حيِّزاً كبيراً من الانتشار والقبول المطلق، فعُمر هذا النشيد حتى العام هذا العام تسعة وخمسون عاماً بالتمام والكمال، حيث ظهر إلى الوجود عبر الإذاعة السودانية في 1/1/1961 أي قبل ظهور التلفزيون الذي بدأ بثُّه بالعاصمة فقط في العام 1963م حين كان الراحل اللواء محمد طلعت فريد وزيراً للاستعلامات والعمل قبل أن تسمى لاحقاً بوزارة الإعلام، ثُمّ تمّ إنشاء التلفزيون في الجزيرة ووصلها الإرسال في العام 1972م في عهد وزير الإعلام الراحل العميد (م) الأديب عمر الحاج موسى.
(3)
(نشيد الاستقلال) كان هو الأيقونة التي قدّمها الدكتور الشاعر عبد الواحد عبد لله واصبحت الأغنية الوطنية الأشهر والتي تُبث في مطلع كل عام، وأصبحت كذلك من الوجدانيات الوطنية للشعب السوداني، وشاعرها الدكتور عبد الواحد ولد منتصف عام 1939م في مدينة القضارف، التي انتقل إليها أهله من منطقة الزيداب، حيث ينحدرون من قبيلة الجعليين المشايخة الشرفديناب، نسبةً للشيخ شرف الدين، ولد شاعرنا الكبير في حي الجباراب لأسرة متوسطة الحال، كان والده – له الرحمة – يعمل في الزراعة والتجارة، درس القرآن الكريم في خلوة جده الحاج عبد الوهاب إبراهيم، والتحق بعدها بالمعهد العلمي المتوسط في القضارف، تحت رعاية الشيخ حاج على الأزرق وأخيه محمد الأزرق.
(4)
ثم انتقل بعدها عبد الواحد عبدالله الى مدرسة القضارف الأهلية الوسطى، والثانوي بمدرسة حنتوب حيث تلقّى العلم على أساتذة مُبدعين أمثال الشاعر الراحل الأستاذ الهادي آدم الهادي صاحب ديوان (كوخ الأشواق) الذي رعى موهبته الشعرية.. وكان التحاقه بجامعة الخرطوم في العام 1959م فتحا جديدا في حياته، حيث تخرج فيها عام 1964م، ليعمل معيداً بمعهد الدراسات الإضافية . تقلد شاعرنا عدة مناصب داخل وخارج السودان حتى استقر به المقام، لسنوات خلت في دولة البحرين مستشاراً لوزير التربية والتعليم.
(5)
الدكتور عبد الواحد عبد الله عالم متخصص في علم التربية الذي نال فيه درجة الماجستير من إنجلترا والدكتوراة من كندا، عمل أستاذاً في جامعتي الخرطوم وزامبيا. وقضى أكثر من عشرين عاماً في منظمة اليونسكو، متنقلاً بين قارات العالم، حيث كان من كبار خُبرائها ومُستشاريها، أصدر ديوان قصائد في حُب الناس والوطن صدر في طبعته الأولى عام 2005م نشره مركز عبد الكريم ميرغني في طبعة رشيقة وغلاف أنيق صمّمه الفنان الياس فتح الرحمن وقدم له الأديب الروائي الفذ الأستاذ الطيّب صالح، حيث قال عنه إنه سمى ديوانه ـ قصائد في حب الناس والوطن ـ وهو لعمري وصف بالغ الدقة لهذا الشعر، إنها كلها قصائد للحب أو (المحبة) مثل ثوب رقيق، ولكنه متين الصنع، يلم شمل القصائد كلها، ويقربها بعضها من بعض، مهما اختلفت أغراضها؛ حين يحن إلى الوطن، وهو بعيد مغترب عنه، حين يرثي أمه وأباه والذين توفاهم الله من أصدقائه، وحين يتغزّل في المحبوبة. لذلك فأنت لا تجد في قصائده الوطنية حماسة زائدة، أو نغمة خطابية طنّانة، ولا تجد في قصائد الرثاء افتعالاً عاطفياً مبالغاً فيه، وغناؤه في جمال المرأة عبارة عن غزل رصين خفيف لا يخدش حياة الفتاة.
(6)
يقول د. عبد الواحد عبد الله يوسف، إنه في سنة 1959 كان طالباً في جامعة الخرطوم وضمن تحضيرات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم تم الإعلان عن أنه تم فتح باب المشاركات الأدبية للطلاب ليشاركوا بها في احتفال الاتحاد بأعياد الاستقلال في الأول من يناير 1960. يقول عبد الواحد جلست ليلتين أكتب تلك القصيدة وقدمتها للاتحاد وحازت على إعجاب المسؤولين.. فغناها كورال الاتحاد في الاحتفال.. وهاجت مشاعر الجميع طلابا ومسؤولين وحضوراً وفي مقدمتهم الفنان خضر بشير الذي كان صديقاً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وبعد ذلك قدمت الأغنية للفنان الشاب حينها محمد وردي وقام بتلحينها وأدائها في إذاعة أم درمان وعندما قرر عبود (بيع) حلفا بالموافقة على بناء خزان ناصر في مصر وإغراق حلفا.. كان وردي في مقدمة المُعارضين لهذا القرار.. فتم سجنه وحُظرت جميع أغانيه وتسجيلاته إلى أن جاءت ثورة أكتوبر 1964م المجيدة وفك الحظر عن الحرية والأحرار ومنذ ذلك الحين.. كل الشعب السوداني يغني في الأول من يناير:
اليوم نرفع راية استقلالنا
ويُسطِّر التاريخ مولد شعبنا
يا إخوتي.. غنُّوا لنا.. غنُّوا لنا..
يا نيلنا يا أرضنا الخضراء..
يا حقل السنا..
يا مهد أجدادي ويا كنزي العزيز المقتنى..
كرري تُحدِّث عن رجال كالأسود الضارية..
خاضوا اللهيب وشتّتوا كُتل الغزاة الباغية..
والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية..
ما لان فرسان لنا بل فرّ جمع الطاغية
وليذكر التاريخ أبطالاً لنا عبد اللطيف وصحبه
غرسوا النواة الطاهرة
ونفوسهم فاضت حماساً كالبحار الزاخرة
من أجلنا ارتادوا المنون
ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون
غنُّوا لهم يا إخوتي
فلتحيا ذكرى الثائرين
إني أنا السودان أرض السؤدد
هذي يدي..
ملأى بألوان الورود قطفتها من معبدي
من قلب افريقيا التي داست حصون المُعتدي..
خطت بعزم شعوبها آفاق فجر أوحد..
فأنا بها وأنا لها سأكون أول مفتدي.
(7)
غير أن الأستاذ وردي ذكر بأن النشيد لم يسبق إيقافه من البث عبر الأجهزة في كل العهود ، إلا في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري في عامي 1971 – 1973م حين كان وردي في المعتقل السياسي بسجن كوبر إثر فشل حركة الرائد الراحل هاشم العطا العسكرية، ثم أطلق سراح النشيد وبقية أعمال الأستاذ وردي مع نهاية العام 1973م إثر اجتماع سري بين الرئيس نميري ومحمد وردي بمبنى وزارة الإعلام ذات مساء وبترتيب مسبق من الراحل الأستاذ أحمد عبد الحليم الذي كان يعتلي مقعد وزارة الإعلام في ذلك الزمان