منى أبوزيد تكتب : في الأدب وقِلَّته..!
6يناير2022م
“البوح ليس دائماً أذنا أخرى بقدر ما هو زمان ومكان ولذة اعتراف”.. محمد حسن علوان..!
(1)
عالم نفس كندي أجرى دراسة تتناول الفوارق بين الذين يقرأون الأدب وبين الذين لا يقرأون، فأثبتت نتائجها أنّ قراء الأدب يمتلكون مقدرات عالية على التكيف مع المُشكلات الاجتماعية المُعقّدة، ويجيدون فنون التعامل مع طبائع النفس الإنسانية على تباينها. فالأدب يجهز القاريء نفسياً، ويقوم بتهيئته علمياً على احتمال مفاجآت الحياة. والسلوك البشري كله مختزل ومؤيقن بين فصول الروايات الحُبلى بالنبوءات السياسية، والمرجعيات النفسية، والشروحات العاطفية، فكل موقف إنساني، مهما خَفّ وزنه بمكاييل الواقع المَعيش، خطير، وقاطع، وثمين في موازين الأدب. الأدب العالمي وصف اللحظات الأخيرة في حياة معظم الحكام وبعض الطُغاة، لذلك تجد أن الذين شاهدوا نهاية الحكم المُستبد على صفحات الرواية، لم يصابوا بدهشة تذكر لفرار بن علي ولا سجن عائلة مبارك ولم يساورهم أدنى شك في مصير القذافي ..إلخ.. كلها روايات لمصالح سياسية مرسلة، وقصص حبلى بالموت المُعلن، ونهايات تاريخية مرصودة سلفاً بين سطور الأدب التي لا تغفل شيئاً..!
(2)
الدكتور محمد المخزنجي، الكاتب والقاص المصري الفذ، له نص ذو دلالات رمزية بديعة – كان للروائي علاء الأسواني أجر تقديمه إلينا عبر مجلة العربي – تقول حكاية ذلك النص إن بطل القصة ذهب يوماً لزيارة أحد أصدقائه في مزرعة يمتلكها، وهناك لاحظ – بهلع بالغ – أن صديقه يقوم بتكديس مجموعات من الدجاج في أقفاص ضيقة جداً، ثم يتعمد توجيه كشافات الإنارة نحو عيونها مباشرة. وحينما سأل الضيف مضيفه عن سر ذلك التعذيب، أخبره بأن تلك هي أحدث وأسرع طريقة للحصول على أكبر عدد ممكن من بيض الدجاج. عندها حاول بطل الحكاية أن يفعل شيئاً من أجل تلك المخلوقات المسكينة، ففتح باب أحد الأقفاص لكي يساعد بعضها على الهرب، لكن المُدهش جداً أن أقرب الدجاجات إلى طريق الخلاص اقتربت ببطء وحذر من الباب الموارب، مدت رأسها خارج القفص قليلاً، قبل أن تعود أدراجها إلى الداخل. وهنا تساءل الأسواني، لماذا لم تهرب الدجاجة من ذلك الباب المفتوح؟. هل لأنها لا تعرف معني الحرية أساساً أو لأنها قد تعوّدت على السجن وأصبحت تخاف الحرية؟. قبل أن يخلص إلى تفسير ثالث – هو أكثر الاحتمالات منطقية –مفاده أن التخلص من السجن الطويل لا يمكن أن يأتي أبداً دفعة واحدة. لا بد أن تعود الدجاجة يوماً إلى الباب الموارب، وأن يأتي يوم تستجمع فيه شجاعتها ثم تنطلق في طريق الخلاص والحرية..!
(3)
استغرق الأديب الفرنسي العظيم جوستاف فلوبير أربعة أعوام كاملة – وقيل خمسة – في كتابة روايته الخالدة “مدام بوفاري”، كان يقضي النهار بأكمله ساهماً مستغرقاً في حيرته بشأن كلمة واحدة صغيرة هل يضعها أم يقوم بحذفها. وقد تمخض حرصه الشديد – على تلك التفاصيل الصغيرة – عن عمل أدبي رائع، كان لبنة أولى لمذهب وفكر وفلسفة جديدة لمدرسة أدبية قائمة بذاتها، فقد اعتبر النقاد فلوبير الأب الشرعي للواقعية في الأدب الفرنسي، واشتقوا من “مدام بوفاري” اسماً لمذهب من مذاهب الكتابة الواقعية هو “البوفارية”. ولكن على الرغم من القيمة الفنية للرواية وموقف النقاد الإيجابي منها صادرتها السلطات الفرنسية بمجرد نشرها بحجة أنها قصة فاجرة وبطلتها منحلَّة، وأن المؤلف يدعو من خلالها إلى تمزيق القيم الأخلاقية وهدم الروابط العائلية. لكن محامي المؤلف والرواية دافع عنهما بقوله “إن البطلة فاجرة، هذا صحيح، ولكنها قد لقيت أقسى أنواع العذاب في نهاية القصة، ومعنى ذلك أن المؤلف يريد أن يعاقب الفجور والاستهتار في شخصها. بعد هذا “الحنك” القانوني المُعتبر أفرجت المحكمة عن المؤلف وعن روايته التي ظلّت خالدةً حتى يومنا هذا..!