طِوال التاريخ الحديث، كل معارِك الحزب الشيوعي السوداني خاسرة، ينتفِش مُنتفِخاً، ينتعش مُهتاجاً، تجتاحُه حالته الهتافية كالهرِّ يحكِي صولة الأسد، يطفو على السطح بزبَده الأجوف، لكن في ساعة الحقيقة يتوارى وينهزِم ويتراجَع إلى جُحره، فهو يستأنِس بالظلام وتحت الأرض في نشاطه السياسي، وأكثر ما يضرّه هو الوقوف في دائرة الضوء، وتحت مساقِط الأنوار الكاشِفة، فكل تجارب الحزب في العمل السياسي مجموعة من المغامَرات والمقامَرات غير المحسوبة، والمعارِك السياسية التي يُثخن جسده بجراحها كل مرة، ولا تحسبنّ أن هذا الحزب في حالات صعوده المفاجئ يمكنه أن يصمُد، فسريعاً كما قال لينين يسقط عمودياً إلى القاع، ودونك ماضيه وتاريخه، ولا يُغرنَّهم انخداع البعض وانسياقه لهم في ظروف ومراحل مُحدّدة فسرعان ما ينكشف الحزب الهَرِم فيقر بعجزه وخيباته، كالشمبانزي المُسن يحك جلدَه من فرط الهزيمة والخسران، وهي لحظة وساعة آتية الآن لا ريب فيها ..
بمقدور الحزب الشيوعي أن يُؤثّر في بعض القطاعات تأثيراً سريعاً مثل أي غازٍ سامٍ أو دخانٍ ملوّث أو مُخدّر عارِض، لكن تأثيره لا يبقى ويزول، وتذهب معه رائحة الحزب، وتطوى صفحته، ولعلّ هذه النتيجة الحتمية للسقوط من بعد الصعود السريع، هي ما تجعل الحزب مُشتطّاً في مواقفه، فاجِراً في خصومته، تُحفّزه روح الانتقام والتشفّي والحقد الأسود، ويسنّ نِصاله وسكاكينه عند السوانِح القليلة التي تلُوح له، ويظن أنه سيمتلك السلطة ليفتِك بمُخالِفيه، ليحز الرقاب ويبقر البطون ويشرب من دم أعدائه… لكنها في الأصل عندما تنظر إلى دفاتر نضالاته وإنجازاته، هنيهات قليلة في مسار التاريخ الحديث تنتهي بكارثة، فمن ذا يغشّه هذا الانتفاش الراهِن كريش الطاؤوس، أن تحسب الشحمَ في من شحمه وَرَمُ، كما قال شاعرنا الكبير المتنبّي..
في تاريخه المُلطّخ بالدماء وأرجله الغائرة في المخازي، بدأ الحزب عميلاً للمخابرات البريطانية نهاية الأربعينيات وبداية السنوات الخمسين من القرن الماضي، رغم تسربُله برِداء الجبهة المُعادِية للاستعمار، ثم أشاح عن وجهه عداءه للإسلام وقيم السودانيين فتمّ حله منتصف الستينيات، نفّذ انقلاباً مع مايو، واستخدم جعفر نميري في تنفيذ مُخطّطات ذبح الأنصار في الجزيرة أبا وود نوباوي، وحلّ الإدارة الأهلية، وأهان القبائل بتَسْفيه زعاماتِها، وطبَّق أقسى سياسات التطهير والتشريد في الخدمة المدنية وأساتذة الجامعات، وسنَّ أبشع القوانين المُقيّدة للحريات والمدمّرة للإنتاج، وأطلق سياسة التأميم والمُصادَرات، وعندما لم يكتفِ الشيوعيون بذلك، انقلبوا على جعفر نميري نفسه، وكان انقلابهم الأكثر دموية في تاريخ المنطقة، عندما نفّذوا التصفيات الجسدية لضباط وضباط صف القوات المسلحة، ولا تزال مجزرة بيت الضيافة حاضِرة في الذاكرة، فخاب انقلابهم ضد مايو، فضُرِب الحزبُ ضربةً قاصمةً، واختبأ قادته وأُعِدم بعضُهم وانزوى تحت الأرض سنين عددا، حتى أخرجته الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985، فوجده الشعب متآمراً وحليفاً لحركة قرنق المتمرّدة، ولا تزال قياداته وكوادره تطعن السودانَ وشعبَه في الظهر، وعندما نشأت حركات التمرّد في دارفور صعد الشيوعيون على رأسها، فَهُم حلفاء كل متمرّد ومطية كل أجنبي، وترى اليوم الشيوعيين موزَّعين في كل العالم في المنظمات والدوائر الغربية المشبوهة يُناصرون هيئات ومنظّمات مجتمع مدني غربية صهيونية، وأجهزة مُخابرات يأتمِرون بأمرها ضد بلدهم، مثلهم مثل كوادر اليسار الأخرى التي تتلقى الأموال الحرام من الخارجية الأمريكية عبر منظمات معروفة ومفضوحة، ولا يستحون عندما يتحدّثون هُنا عن الوطنية وحُرية الإعلام والصحافة، وتلك ملفات وقصص أخرى ..
ربّما تكون هذه المرّة هي الأشد نشوة في سَكْرة الحزب العجوز، ظنّ أنه قاد الجماهير نحو الثورة ونجاحها، وأنه ألَّب وحرَّض الجماهير ضد النظام السابق، حتى خَرَّ مُضرَّجاً في دمِه، وظنّ حزبنا الطاعن في السن أنه مثل صيّادي الوحوش في قَصص الألعاب والأدغال في أفريقيا سيضع رِجله اليُمنى على جَسَد فريسته ثم يُطلق زعيقه المُرعِب تردّد صداه الآجام، أو سيكون كفرسان العصور الوسطى يأتي متبختراً في الساحات يجر خلفه أسراه يتزيّن بأكاليل الانتصار الزائف.. ففي هذه اللحظات انخدع الحزبُ مثل كل مرة، نسي أن هذه التربة السياسية ليست تربته، ولا ينبُت فيها زرعه، ارتكب نفس أخطائه السابقة، فهو يبرع في حشد الحلفاء الحانقين والمُغفّلين النافعين، ويجتذب نحوه أوشاب السياسة من قِصار النظر والبصر والبصيرة والهائمين المُسرفين في أحلامهم، منقادون للشعارات البرّاقات اللامِعات كالسراب العريض، لكن مع مرور الوقت تتعرّى الكِذبة الشيوعية وحدها، وينقشِع الحجاب، ويُسفر ويُناط اللثام عن الفكر الضال الضلّيل والفِكرة السياسية الصدئة التي اهترأت في العالِم كله، ولَم يبق منها إلا بضع خِرَقٍ بالية مُوزّعة في الأصقاع.. ولَم تعُد موضة الأحزاب الشيوعية تُغري أحداً في العالَمِين ..
في هذيانه الأخير، لم يُدرك الحزب في خطاياه الكُثر، أنه في حثيث سعيه الحالي لإقصاء الدين وإبعاده من الحياة، وإعلان كوادره رفضهم للإسلام وسعيهم نحو دولة لا دينية وعلمانية محضة وصارِخة، وحّد الحزبُ خصومَه من التيارات الإسلامية ونبّهها لخطورة ما يتم التخطيطُ له، ووحّد الحزب كذلك الوجدان الوطني الذي يمثّل الإسلام جوهره ولبه وقلبه، وهذه المرة لن يكون ما سيحدث شبيهاً بما حلّ بالحزب في العام 1965م، عندما طُرِد شرّ طردة من البرلمان وتم حلّه، ولن تصيبه لعنةٌ كلَعنة 19 يوليو 1971م، فمن يعرِف أقدار الله ربما تكون أقسى، فما مِن جريرة وجُرمٍ وذنب أفدح وأجَل من الإعلان ثم الوقوف ضد عقيدة أمة ودين الحق العزيز الجبّار .