الخرطوم: مريم أبشر
النهاية، هي دائماً الخطوة الأخيرة من كل شيء، وقد تكون بالطبع اللحظة الأخيرة لانتهاء حقبة وبداية أخرى، قد تختلف النهايات في الكيفية والملابسات التي تدفع لأن تكون واقعاً حتمياً، ولكنها قطعاً تشكل ملامح فترة قادمة تمثل تغييراً لنمط طالما ملّه الناس.
مفهوم لكل بداية نهاية، ينطبق على رؤساء الأنظمة الحاكمة، مهما تطاولت سنين تربعها على عرش الحكم وإمساكها بتلابيب السلطة القابضة، هناك نهايات لحكام تعاقبوا على السودان شكلت سفراً جميلاً وذكريات خالدة في التجرد والصدق ونكرات الذات والابتعاد عن الأنا والتمسك بكرسي الحكم، تقابلها نهايات كانت عظة وعبرة بعد أن ملّهم الشعب وركلهم إلى مزبلة التاريخ بلا رجعة ولا رحمة، بعد أن أذاقوا شعبهم صنوفاً من التعذيب والدمار، الأمر الذي دفعهم لأن يسطروا مجداً خالداً في قيام ثورات شعبية وضعت حداً لنهاية الحكام الطغاة والجبارين وركلتهم لمزبلة التاريخ يجرون ورايهم أذيال الخيبة غير مأسوف عليهم.
وضع ملتهب
المعلوم أن السودان تسوده منذ استقلاله في عام 1956م حالة من انعدام الاستقرار السياسي، حيث شهدت البلاد ثلاثة انقلابات عسكرية كرست وجود الأنظمة الاستبدادية لأكثر من خمسين عاماً. ولم تستمر الفترات الديمقراطية في تاريخ السودان الحديث سوى 15 عاماً. وتعتبر الحروب الأهلية المتواصلة منذ الاستقلال من الملامح الأخرى لانعدام الاستقرار في السوان، إذ لم تحظ هذه الدولة سوى بفترةٍ بسيطة من السلام. وكانت الازمة السياسية قد انعكست على الواقع الاقتصادى غير المستقر منذ الاستقلال وحتى الآن بسبب عدم التوصل لحلول وسط.
ولم تقدّم النخبة التي استولت على السُلطة لفترة طويلة من الزمن شيئاً لمعالجة الأزمة في البلاد باستثناء اللجوء إلى الانقلاب العسكري كعلاجٍ للخلافات السياسية، أو الحلول العسكرية كعلاجٍ للمناطق المهمشة مثل الجنوب الذي انتهى بالفصل ودارفور التي لا تزال تعاني من الاضطرابات وعدم الاستقرار الأمني.
وبطريقةٍ مماثلة، لم يكن هناك حل للظلم الاقتصادي المتفاقم والتنمية غير المتوازنة. وفي مواجهة المعارضة المنظمة التي سعت لاستعادة وتعزيز الديمقراطية والسلام والمساواة وحقوق المواطنين، فقد لجأت النخب الحاكمة إلى القمع ورفع شعارات الإسلام السياسي كحلٍّ وحيد للمشاكل التي تواجه البلاد، وذلك بصورةٍ مناقضة لطبيعة الديمقراطية، الأمر الذي تسبب فى تجدد اندلاع الحروب بالجنوب، والتي انتهت بفصله، ومنذ الاستقلال، تمضي البلاد في دورات متكررة، تتبادل فيها السلطة، حكومات مدنية، وأنظمة عسكرية، لكنها تتفق، جميعها، على الإخفاق في تحقيق التنمية.
العبرة بالخواتيم
نال السودان استقلاله مطلع يناير 1956م، وكان صانع الاستقلال هو الزعيم إسماعيل الأزهري الذي رفع علم السودان فوق سارية القصر، هو أول زعيم سوداني تولى مقاليد الحكم تخلى في المرة الأولى طواعية للسيد عبد الله خليل بعد عام تقريباً، عندما شعر بتحركات لحزب الأمة لفترة انتقالية، ومكث عبد الله خليل عاماً واحداً، قبل أن يطيح به نظام عبود الذي استمر سبع سنوات..
وتشير أضابير تتابع الأحداث في السودان أن السيد سر الختم الخليفة خريج جامعة اكسفورد الذي عمل في معاهد التعليم لتولي مقاليد الحكم خلال فترة انتقالية بعد ثورة أكتوبر، لم تتجاوز العام، ليأتي الزعيم الأزهرى مرة أخرى لواجهة الزعامة السودانية محمولًا على أجنحة الديمقراطية رئيساً لمجلس السيادة، إلى أن أطاحت به ثورة الرئيس جعفر نميري، فيما عرف بثورة الخامس والعشرين من مايو تسعة وستين، وأبقى الرئيس السابق جعفر محمد نميري الزعيم الأزهري محبوساً بين أسوار سجنه إلى أن توفي، وكان يعاني من مشكلات في الشرايين حسب سرد محدثي، ورفضت السلطات المايوية حينها إقامة جنازة رسمية لزعيم الاستقلال، واكتفت بخبر باهت محتواه (توفي الأستاذ إسماعيل الأزهري المعلم بوزارة التربية).
يقول شهود لـ (الصيحة): غير أن محبي الزعيم ورفقاء دربه في الحزب الاتحادي الديمقراطي تجمعوا بأعداد مهولة لتشييع الزعيم لمثواه الأخير.
وشكلت نهاية الزعيمين عبد الله خليل، وسر الختم الخليفة أحداثاً طبيعية فيما كان انتقالهم إلى الدار الآخرة بذات الهدوء الذي ولجوا به الساحة السياسية.
وذات السيناريو حدث للرئيس إبراهيم عبود الذي ثار الشعب ضده في ملحمة شعبية ضخمة سطرها التاريخ لكنه سلم السلطة لقادة الثورة دون اللجوء للعنف ولقي ربه وهو بين أحضان أسرته.
وتلقى الرئيس جعفر نميري الذي جاء للحكم على ظهر دبابة أطاحت بحكومة ديمقراطية أول الضربات من زملائه حين قاد هاشم العطا يعاونه بابكر النور وفاروق حمد الله انقلاباً (رغم أنهم كانوا لحظة التنفيذ خارج السودان)، استمر ثلاثة أيام فقط، ليعود الرئيس جعفر نميري مرة أخرى للقصر الرئاسي وكان عقابه لرفاق دربه الطرد والتجريد من الرتبة العسكرية ثم الإعدام وذلك في العام 1971م. غير أن النميري لم يهنأ لتتجدد ذات محاولة الانقلاب على يد الضابط محمد نور سعد حيث استمر انقلابه على الرئيس نميري لساعات قليلة كانت نتيجتها إعدامه رمياً بالرصاص.
6 أبريل يوم الخلاص
أطاحت الثورة الشعبية العارمة بنظام الرئيس جعفر نميري، ووصلت قمتها في السادس من أبريل عام 1985 نتيجة ضغوط كبيرة عاشها الشعب السوداني، وكان حينها الرئيس نميرى في زيارة للولايات المتحدة واتجه مباشرة نحو القاهرة التي مهدت له مكاناً للإقامة امتد حتى 2010 ليعود للخرطوم وقد محت ذاكرة السنين للشعب السوداني كثيرا من الغضب الذي كان يمكن أن يقطعه أرباً لو عاد بعد الثورة مباشرة، وكان على العكس لما يحدث للرؤساء المخلوعين فقد استقبل استقبالاً كبيراً، وظل محل حفاوة وكرم مقيماً في منزله إلى أن توفاه الله بمستشفى السلاح الطبي.
شامة في تاريخ العرب
يظل المشير عبد الرحمن سوار الذهب، هو أيقونة الزعماء الذين تعاقبوا على تاريخ السودان بل والعالم العربي، فقد أعلن عندما ثار الشعب على الرئيس نميري وحينها كان وزيراً للدفاع انحيازه التام للثورة، وتعهد بتسليمها بعد فترة انتقالية لم تتجاوز العام للشعب السوداني وكان وفياً لما وعد.
و(سيظل هذا الضابط الشريف شامة في تاريخ العرب المعاصر)، وتكررت التجربة، صناديق الاقتراع لتعيد الصادق المهدي مرة أخرى للحكم رئيساً للوزراء. وظل سوار الذهب يحظى باحترام الداخل والعالمين العربي والإسلامي إلى أن انتقل للدار الآخرة بالأراضي المقدسة ودفن في البقيع تنفيذاً لتوصية أودعها السلطات السعودية.
الإطاحة بالديمقراطية الثالثة
تولى أحمد الميرغني رئاسة مجلس السيادة في انتفاضة أبريل 85 فيما تولى رئاسة مجلس الوزراء الصادق المهدى بعدما ظن الكثيرون أن المهدى قد اكتسب خبرة كافية لتجاوز أخطاء الماضي، لكن النتيجة لم تكن في صالحه، ولعله من الإنصاف أن يقال إن المشاكل التي تراكمت على السودان، من 1964 إلى 1986 لم تترك لمن يحكم من الأدوات والوسائل ما يمكنه من مواجهتها، وهكذا انتهت تجربة الصادق المهدي الثانية إلى سباق الانقلابات الذي نجح فيه الإسلاميون بتقديم العقيد عمر البشير واجهة لحكمهم يوم 30 (يونيو) 1989.
ظل رأس الدولة لانتفاضة 86 أحمد الميرغني مقيماً بالقاهرة، إلى أن انتقل للدارالآخره لينقل جثمانه ليوارى الثرى بالسودان.
تمكين 30 عاماً
استولت الإنقاذ على مقاليد الحكم في 30 يونيو 89 برئاسة العميد عمر البشير، وبتدبير من زعيم الحركة الإسلامية الدكتور الترابي الذي (ذهب للسجن حبيساً)، وظلت لثلاثين عاماً، وتمسك بيد من حديد على كل مفاصل الدولة خلافاً لمحاولة انقلابية جرت في بداية التسعينات أعدمت الإنقاذ مدبريها في رمضان والبالغ عددهم تسعة وعشرون ضابطاً.
وما بين حكومة وفاق وحوار وطني تقلبت الإنقاذ تحت سيطرة الحركة الإسلامية فيما عرف بالاسلام السياسي تتبادل المواقع فيما بين كوادرها مع بعض الانفتاح على بعض أحزاب الحوار في اعقاب انفصال الجنوب لتصحو في التاسع عشر من ديسمبر العام الماضي على موجة احتجاجات شعبية بدأت شرارتها من إحدى المناطق النائية بالدمازين ولاية النيل الأزرق، لينتقل شررها لعطبرة عاصمة الحديد والنار، ثم تنداح إلى باقي مدن السودان، وتصل ذروتها في الحادي عشر من أبريل حين أجبر الثوار المعتصمون على بوابة القيادة، نائب الرئيس المخلوع عمر البشير على الانحياز للشعب قبل أن يقيله الثوار بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، ويقبل بالفريق عبد الفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي لحين نقل السلطة للمدنيين.
وبالسيناريو الذي انتهت إليه الإنقاذ بعد ثلاثة عقود نقل الرئيس البشير حبيساً في سجن كوبر، ينتظر مصيره في محاكمات لجرائم اقترفها نظامه البائد قد تمتد سنيناً.