صحافة الجمهور..!

قوة الصحفي لا تَكمن في تَوجيه الأسئلة، بل بحقه في المُطالبة بالإجابات”.. كوليت خوري..!

أول وأولى أسباب عدم اكتمال ثورة سبتمبر “2013م” – في تَقديري – هو وجود فَجوة ما بين واقع الشَّارع السُّوداني والواقع الافتراضي عَلَى مَنَصّات التّواصُل الاجتماعي. لكن المُلاحظ اليوم أنّ دور ذات الوسائل – فيما يختص بإضرام الثورة والحشد لتأجيجها وحراسة مُنجزاتها – قد تَطوّر جِدّاً بعد اندلاع هذه الثورة، وعلى نحوٍ غير مَسبوق. فأصبح كل مُواطن مشاركاً فيها على نحوٍ ما، إن لم يكن بحُضُوره الشّخصي فبحُضُورٍ افتراضي عبر مَشاهد حيّة، على الهواء مُباشرةً..!

سقف الحُريات الصّحفية – في عهد النظام السَّابق – شهد ارتفاعاً باتّجاه مَا يختص بالدولة، وانخفاضاً فيما يخص الأفراد والأشخاص، فأصبحت المُحَرّمات كلها حول صفات الأشخاص وليس الصفات الاعتبارية للدولة، كَما ينبغي لهامش الحرية ولسقف المُساءلة أن يكون. بَينما الخَوض في الأوحال لفحصها وليس الاكتفاء بتصويرها من الشرفات هو جوهر العمل الصحفي..!

كان هنريك أبسن – الكاتب المسرحي العظيم – يقول عن الفرق بين مَقالات أميل زولا ونُصُوصه هو أن “زولا يغوص في المَجَاري ليستحم فيها، بينما أنا أُغوص فيها لتنظيفها”. هكذا اختزل الرجل باتقان الفرق بين دور الصحفي الذي يكتب عن الواقع بصدقٍ وقبحٍ أحياناً، والأديب الذي يُحوِّله إلى فُنُونٍ جميلةٍ..!

وكلّما لاحَ ضَوء الصّحافة الحُرّة، ذُكرتْ مقالات زولا الذي عرض مُستقبله المهَني للخَطر عندما كتب مقالته الشهيرة “إني اتّهم”، والتي كانت رسالة إلى رئيس الجمهورية، نشرتها أهم الصحف الباريسية في صفحتها الأولى، على الرغم من كونها تتّهم أعلى قيادات الجيش الفرنسي بمُعاداة السامية وتكبيل العَدَالة، ذلك أنّها حَكَمَت على ضابط يهودي بالسجن المُؤبّد ظُلماً بعد أن تَمّ اتّهامه زُوراً بالتّجسُّس، وقد كَانَ هذا قَبل أن تُغيِّر مَقالة “زولا” مَجرى المُحاكمة جذرياً وإلى الأبد..!

فانقسم الشعب الفرنسي بأكمله بين مُؤيِّد ومُعارضٍ، وتمّ اتهام “زولا” بالتشهير، وقُدِّم لمحاكمة جنائية، وحُكم عليه بالسجن، ففرّ من البلاد وعاد إليها بعد سقوط الحكومة التي أدانته.. وكان من آثار مقالته تلك أن عرضت الحكومة الجديدة على الضابط اليهودي المظلوم عفواً مقابل اعترافه بالذنب، أو أن تُعاد مُحاكمته، فَقبلَ العفو رغم براءته خوفاً من الإدانة ظُلماً من جديد. لكن الصحافة الحُرّة أكملت رسالتها وتمّت تبرئة الرجل بعد سنواتٍ من إطلاق سَراحه، وبقيت مَقالاته في إرشيف الصحافة العالمية شاهداً على الدّور المفقود للسُّلطة الرابعة..!

وكُل هذا جميلٌ، لولا أنّ كتاباً جديداً قد صَدَرَ في فرنسا، قبل فترةٍ، يتناول التّحوُّلات الكُبرى التي طرأت على الصحافة. الكتاب يقول لأصحاب هذه المهنة، أنتم مُهدّدون بالجلوس في بيوتكم لأنّ الصحف لم تُعد مصدراً آمناً لأكل العيش..!

فالصحافة – بحسب مُؤلف الكتاب ورئيس التحرير السابق – لم تعد وسيلة إعلام جماهيرية، بعد أن أصبح الجَمهور نفسه هو الوسيلة الإعلامية. فالمُواطن اليوم هو مَصدر المَعلومة، وهو وسيلة إيصالها، وهو المُتلقي أيضاً. إن لم يكن على صفحات الجرائد ففي عالم الإنترنت، الذي أصبح لا يصنع الثورات فقط، بل يجتهد في حراستها أيضاً..!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى