المشهد قبل 19 ديسمبر 2018.. كل الطرق تقُود للتغيير
الخرطوم: صلاح مختار
لم يكن أكثر المتشائمين وأقل المتفائلين بشأن حدوث تغيير بالبلاد لم يكن يظن أن السيناريو بهذا يتّجه بهذا الشكل من السلاسة, ربما تلك أدهشت الأعداء قبل الأصدقاء بأن الثورة السودانية نجحت في تغيير نظام جثم أكثر من (30) عاماً, أعتقد البعض أنه باق الى ما لا نهاية.. ولكن هي أقدار الله وسنته الذي يؤتي الملك لمن يشاء وينزع الملك ممن يشاء, فكانت حالة النزع التي أطاحت بحكم الإنقاذ, لتبدأ مرحلة جديدة من الثورة شعاراتها (حرية.. سلام وعدالة). (الصيحة) تتبعت تلك المراحل التي قادت الى التغيير في السادس من ابريل عندما اقتحمت الجماهير المتاريس لتصل الى مبنى القيادة العامة ليبدأ فصل جديد من التاريخ. أبلغ وصف للثورة انها اختلفت عن سابقاتها، لأنها انطلقت من الأقاليم بدلاً من العاصمة الخرطوم, ويتكرر ذات المشهد اليوم في مسيرة تستعيد ذكرى ديسمبر تنطلق اليوم الأحد الموافق 19 ديسمبر 2021.
بداية الشرارة
كانت بداية الشرارة عام 2013م التي انطلقت منها وقود الثورة, عندما فاجأ الشارع السوداني, الحكومة بمظاهرات في العاصمة وبعض المدن ليخرج المئات من المُحتجين في مسيرات دعا لها ناشطون, احتجاجاً على قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات وما وصفوه بقمع الاحتجاجات التي وقعت خلالها, وسقط فيها من القتلى والجرحى. وهتف متظاهرون في ذلك الوقت من الذين شاركوا في مسيرة مُناهضة للحكومة مرددين هتافات (الشعب يريد إسقاط النظام).
مشاركة قطاعات
لم تكن تلك المُعالجات إلا بداية لسلسلة من الاحتجاجات التي بدأت تستشري في جسد الدولة كما النار في الهشيم, تضاعفت مع الأزمة الاقتصادية التي بدأت تلوح في الأفق, بدأت معها قطاعات حية في المجتمع تتضامن مع التظاهرات. في ذلك الوقت بدا الحديث جهراً بالمطالبة برحيل البشير من قبل الجماهير المحتجة ومن تلك قطاعات الطلاب والفنانين على سبيل المثال.
توفير الحرية
تواصلت عملية الاحتجاجات, وفي مارس 2014, أطلقت القوات الأمنية قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق مظاهرة نظمها العشرات من المتظاهرين المعارضين للحكومة في الخرطوم. وردد المتظاهرون شعارات تطالب بتوفير الحرية والعدالة. وتعد هذه المظاهرة الثانية التي ينظمها المناهضون للحكومة خلال أسبوع في نفس الشهر. وشهدت موجة الاحتجاجات مقتل طالب في اشتباكات بين قوات الأمن ومُحتجين. وتناقلت التقارير مقتل أكثر من (170) شخصاً بينهم أطفال، ما بين سبتمبر 2013 وحتى ابريل 2014 وذلك أثناء تعامل حكومة الانقاذ مع الاحتجاجات، مع إصابة المئات واعتقالهم واحتجازهم، والبعض لأسابيع وأشهر.
تمدد التظاهرات
لم يتوقّف تمدد التظاهرات الجماهيرية التي بدأت قبل خمسة أعوام, حيث شهدت بداية عام 2016 اندلاع تظاهرات شارك فيها المئات تجمعوا وسط الخرطوم في احتجاجات لليوم الثاني على مقتل طالب خلال مظاهرة داخل حرم جامعة أم درمان الأهلية، وهتف المحتجون ضد نظام الحكم ومن بين الشعارات التي رُدِّدت “مقتل طالب مقتل أمة.. يسقط حكم العسكر”. ويأتي مقتل الصادق بعد أسبوع من مقتل طالب آخر في جامعة كردفان بمدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان, وفي أبريل من نفس العام قُتل طالب خلال اشتباكات نشبت مع القوات الأمنية ومحتجين في إحدى الجامعات. وفي نوفمبر استخدمت شرطة مكافحة الشغب السودانية، الغاز المسيل للدموع ضد متظاهرين سودانيين، بينهم محامون وصحفيون بعد تنظيم تظاهرات احتجاجاً على قرار الحكومة بزيادة أسعار الوقود.
تدهور العملة
وتعود الأزمة التي يواجهها النظام إلى سلسلة من الإجراءات بدأت في نهاية عام 2017 بعد إصدار أول ميزانية لما سمي بـ(حكومة الوفاق الوطني) التي رأسها نائب الرئيس، الفريق أول بكري حسن صالح، وما أن أُعلِنت الميزانية حتى بدأت قيمة العُملة تتدهور بسرعة. ولم يساعد القرار الأميركي رفعَ معظم العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على السودان، مطلع عام 2017 في تحسين الأوضاع. وكانت ردة فعل الحكومة اتخاذ إجراءات صارمة للحد من المعروض النقدي في الأسواق فيما ازدادت حدة التوتر بعد ندرة دقيق الخبز والسيولة النقدية.
شعار الثورة
وفي ديسمبر من العام 2018, خرجت تظاهرات في عدة مناطق سودانية بعد صلاة الجمعة طالب فيها متظاهرون برحيل النظام, فضلاً عن مطالبات بتحسين الظروف المعيشية. وشهدت الخرطوم وغيرها من المدن احتجاجات منذ 19 ديسمبر من نفس العام، عقب قرار الحكومة برفع أسعار الخبز. وهتف المتظاهرون في ذلك اليوم (حرية.. سلام وعدالة) لأول مرة تعبيراً عن مرتكزات الثورة التي تقوم عليها لدى خروجهم من مسجد أم درمان، وكانت المعارضة دعت إلى مواصلة الاحتجاجات، في الوقت الذي اجتمعت فيه عدة أحزاب من المعارضة، حيث اتفّقت على الدعوة لمزيد من التظاهرات خلال الأيام المقبلة.
ارتفاع القتلى
تواصلت عمليات القمع التي تقوم بها الحكومة في نفس العام لإخماد جذوة الثورة, وأعلنت في ذلك الوقت حصيلة جديدة بأنّ 19 شخصا قتلوا، بينهم اثنان من قوات الأمن، أثناء الاحتجاجات لرفع سعر الخبز التي انطلقت في بلدات وقرى عدة قبل أن تصل إلى الخرطوم. وأضافت: “مع دخول اليوم العاشر للاحتجاجات، نرى أن أعداد المتظاهرين، ليست هي التي رأيناها في الأيام الخمسة الأولى للاحتجاجات في الخرطوم وغيرها”.
تجمُّع المهنيين
حتى ذلك الوقت لم يتضح للحكومة أو لكثير من المراقبين من يقف وراء تلك التظاهرات, ولكن مع تمدد التظاهرات واتساع رقعتها, حاول (تجمع النقابات المهنية) والذي أعلن عن قيامه بعد اندلاع الاحتجاجات (يشمل الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين وأساتذة الجامعات والصحفيين وغيرهم)، تنظيم مسيرة إلى القصر الجمهوري في 25 ديسمبر 2018, ودعا قوى المعارضة والنشطاء للتنسيق بينهم لإنجاح التظاهرات، فيما قال بيان قوى الإجماع: “إيماناً منا بحتمية إسقاط النظام، ووفاء لدماء شهداء الانتفاضة الشعبية، تدعو قوى الإجماع الوطني جماهير شعبنا في العاصمة والولايات للتظاهر في كل المدن والأحياء، تحت عنوان جمعة الوفاء لدماء الشهداء”.
ذروة الثورة
بلغت ذروة الاحتجاجات في عام 2019 وبدأ الحراك في المدن والدعوة للعصيان للمرة الثانية وتفاعلت معها قطاعات كثيرة وقبل مطلع أبريل بدأ رئيس النظام البشير يشعر بأن الأرض تتحرك من تحته وبدأ يقر بمطالب المحتجين وهو يخطب في البرلمان, حيث اشار الى أن المظاهرات التي شهدتها شوارع البلاد مؤخراً تحمل مطالب مشروعة، لكن عدداً منها أحدث خللاً في النظام العام. في نفس الوقت اطلقت المرحلة الثانية من الحوار بين مكونات البلاد وفق ما سماه التوجه نحو التغيير. وعلى الرغم من إعلان البشير لحالة الطوارئ في البلاد وتعيين حكومة جديدة، لم يتراجع زخم الاحتجاجات في شوارع البلاد, في وقت أعلن حزب المؤتمر الوطني المحلول أن المؤتمر العام المقبل للحزب سيختار رئيساً جديداً له. في خطوة لامتصاص غضب الشارع.
امتصاص الغضب
وفي خطوة وُصفت بأنها محاولة لامتصاص غضب الشارع بجانب المطالبات الكثيرة داخل الحزب, بدأ البشير في الدفع باستقالته من الحزب في بداية عام ,2019 بيد أن مكتبه القيادي قال إنه لن ينظر في استقالة مقدمة من البشير، مرجحاً أن يجمد الرئيس رئاسته للمؤتمر الوطني في هذه المرحلة، موضحاً أن ذلك لا يعني أنه ليس عضواً بالحزب. وشهد الحزب في ذلك الوقت محاولات كثيرة لترميم ووضع المساحيق التي تبدو للآخرين بأن هنالك تغييرا قد بدأ منها كشف بأن “البشير لم يشاور الحزب في مسألة اختيار رئيس الوزراء والنائب الأول، ولم يتم عرض الأمر في المكتب القيادي”، معتبراً أن في ذلك علامات تدل على أن البشير بات يعامل حزب المؤتمر الوطني مثلما يُعامل الآخرين. ولكن سبق السيف العزل.
مطالب بالتنحي
بيد أن آلاف الأشخاص شاركوا في مسيرات منفصلة ومختلفة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة, خاصةً وأن الأوضاع بدأت تنفلت من بين أيدي الحكومة البائدة وتمثلت في عدم قدرتها في السيطرة على حركة الاحتجاجات وتوسع نطاقها, وبلغت ذروة تلك التظاهرات في ابريل, حيث فشلت اكثر من مرة وصول المتظاهرين الى مقر القيادة, ولكن بدأت خُطة الثوار تتجه من القصر الى مقر القيادة باتجاه وزارة الدفاع ومقر إقامة الرئيس عمر البشير. تحولت خلال العام الأخير من 2018 الى 2019 مطالب المتظاهرين إلى أقصى عدم القبول بأي مطالب إلا بإسقاط النظام وشهدت أحياء واسعة من العاصمة الخرطوم وعدد من الولايات السودانية خروج الآلاف من المتظاهرين. وتركّزت الحشود بشكل أكبر في شارع القيادة العامة، وقال التجمع إنه سيسلم مذكرة للجيش تُطالب برحيل النظام.
تزييف الصورة
ورغم حالة الطوارئ التي أعلنها النظام, الا ان التظاهرات خرجت من عدة مناطق بالخرطوم والولايات ونظمت, بجانب ذلك وقفات في الخرطوم للمطالبة بتنحي الرئيس البشير، وشهدت جامعات سودانية مظاهرات تنديداً بقمع تعرض له طلاب بعد اقتحام جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، فيما نشر ناشطون تسجيلات تظهر استخدام الأمن الغاز المُسيل للدموع لتفريق مظاهرة خرجت في منطقة السوق العربي بالخرطوم. وكان تجمُّع المهنيين السودانيين, أعلن عن تنظيم مظاهرات جديدة ستتجه إلى القصر الجمهوري رداً على ما جاء في خطاب البشير الأخير. وعن قرارات البشير الأخيرة, قال التجمع في بيان نشره على صفحته بموقع فيسبوك, إن محاولة رأس النظام تزييف مطالب الثورة بإجراء تغييرات قشرية على شكل النظام مع احتفاظه هو بمنصبه لن تزيدنا إلا إصراراً على إسقاط النظام وتنحي رئيسه. وأضاف البيان: لسنا معنيين بالعمليات التجميلية الشائهة لوجه النظام القبيح، بل هدفنا الحق العادل هو دَكِّه بالكامل وإزالته عن السلطة.
على الشارع
بعد أكثر من عامين, ما زال المشهد على الشارع كما هو لم يتغيّر دعوات للتظاهر واعتصامات, يرى البعض انها امتداد لتلك الحقبة التي امتدّت من قبل سقوط الإنقاذ لتأتي حقبة اخرى ولم يشعر الشارع بأن هنالك تغييرا يُذكر لتبدأ معه دعوات للمُشاركة من كل الولايات من اجل التغيير غير آبهة بما يتربص بها من خطورة من خلال التجارب السابقة التي اندلعت فيها التظاهرات في مدن البلاد أدّت إلى وقوع عدد من الشهداء.
إذن (19) ديسمبر 2021 حقبة جديدة شعارها تحرير الخرطوم.