بعدُ وقبل..
أو؛ أما بعد… وأما قبل..
وقيل إن أول من قال أما بعد دون أن يكون هنالك قبلُ هو الحجاج بن يوسف..
وذلك في خطبته حين ولي أمر العراق..
فهو ابتدرها بعبارة (أما بعد) رغم إنه قبلها لم يقل شيئاً… خلاف لغة العيون..
ولكل إنسان في الدنيا قبلُ… وبعد..
قبل الغنى وبعده… قبل المرض وبعده… قبل الكرسي وبعده… قبل الحب وبعده..
نعم حتى الحب له أما بعد… وأما قبل..
وصديقٌ – وزميل دراسة – كان أشبه بالحطيئة في بذاءة اللسان… قبل الحب..
وعندما أحب صار أشبه بنزار قباني في رقة اللسان..
فإن أردت أن تحكم على شخص – أو له – فانظر إلى ما قبل… وما بعد..
حالة كونه فقيراً – مثلاً – وحالة كونه ثرياً..
فقد يُذكرك بأبي ذر الغفاري وهو معدم… فإن اغتنى ذكَّرك بقارون..
وقد يتشبه أحدهم بأيوب وهو مريض..
فإن شفي لم يكن له من شبيهٍ يناسبه أفضل من (رفيقنا) ذاك المعتد بصحته..
وقد رويت قصته من (قبل)..
وفي حكمنا الشعبية يقولون (يتمسكَّن لحد يتمكَّن)؛ أي ما قبل وما بعد..
وما بعد الكرسي – تحديداً – لا يكون كما قبله..
لا يكون كذلك إلا فيما ندر… وقليلون من يجتازون هذا الامتحان بنجاح..
سيما عندنا هنا في السودان..
وربما هذه إحدى عللنا السياسية – الخطيرة – التي أقعدت ببلادنا على الدوام..
فالسياسي له شخصيتان؛ قبلُ… وبعدُ..
وشخصية ما قبل هذه تكون غالباً (زي الفل)؛ زهداً… وصدقاً… ووطنية..
وفور جلوسه على الكرسي يغدو شخصية أخرى..
فلا هو بزاهد… ولا صادق… ولا وطني؛ حتى ولكأن روحاً أخرى قد تقمصته..
ولا مانع لديه من أن يبيع أي شيء مقابل كرسيه هذا..
ذمته… ضميره… مبادئه… قناعاته… سمعته… ماضيه… بل وحتى وطنه ذاته..
فعبود باع حلفا للمصريين..
وأيام نميري باع بعض أهل الكراسي وطنهم..
أو بعض وطنهم؛ نظير دفن نفايات نووية… وبثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة..
ولم نقل نميري نفسه… وإنما من وراء ظهره..
وفي بدايات الإنقاذ سمعنا عبارة (سنبقى في بيوتنا ذاتها… لأننا زاهدون)..
وكان كلاماً زي الفل… وفُلين… وأكثر..
رغم أن الانقلاب نفسه كان كشجرة الزقوم… طلعها كأنه رؤوس الشياطين..
وكانت منازل نفرٍ منهم بأحياءٍ العاصمة الطرفية..
ثم رأيناهم يسكنون السرايات… ويمتطون الفارهات… وينكحون الحسناوات..
ثم جاءت الثورة… ثورة ديسمبر..
وجاء إلى الكراسي أناسٌ كانوا يتكلمون كلاماً زي الفل (من قبلُ)..
أما (من بعدُ) فقد تبدّل كلامهم (180) درجة..
فقد دافعوا عن رفع الدعم بعد أن كانوا ينتقدونه بعنف أيام حكم المعزول..
وتبنوا التطبيع من بعد تحريمٍ له… من قبلُ..
ومدوا نحو البنك الدولي أيادٍ كانت مرفوعة بهتاف (لن يحكمنا البنك الدولي)..
وتكالبوا على الفارهات من بعد حافلة أداء القسم التقشفية..
و(من بعد) قال قائلٌ منهم إن عدم تسلمهم الشرطة والأمن خرقٌ لوثيقة الدستور..
ونسوا أنهم قد خرقوها (من قبلُ)..
خرقوها من عدة جوانب… ومنها خرق عدم الالتزام بحكومة كفاءات مستقلة..
ثم خرق عدم الالتزام بفترة الانتقال..
ثم خرق عدم إنشاء البرلمان… والمفوضيات… والمحكمة الدستورية..
خرقوها حتى غدت كخرقة بالية..
وتحجّرت قلوبهم – إزاء الشعب – بعد أن كانت تتفجّر أنهار حنانٍ وإشفاق..
وما عادوا يذكرونهم إلا عند تعرض كراسيهم للخطر..
فيذكرونهم هم… والثورة… والثوار… والشهداء… وسفاحي مجزرة الاعتصام..
وما عادت الأقوال – والأفعال – زي الفل..
ما عادت كما كانت (من قبلُ)… ولهذا قلنا إن المحك يكمن في (من بعد)..
وما أبرئ نفسي… إن النفس لأمّارةٌ بالسوء..
فربما لو هبطتُ على كرسي – على حين غفلةٍ مثلهم – لفعلت مثلهم بالضبط..
رغم أن كلامي كان مغايراً… من قبلُ..
وزي الفل!!..