منى أبوزيد تكتب: في وَعي الشُّعوب..!
11ديسمبر2021م
“التغيير في السودان مثل قشرة موزٍ على سطحٍ صقيل، لا نلتَفتُ إليه إلا بعد السقوط، ولا نتحدّث عن شروعنا فيه إلا بعد تحسس الكدمات وإحصاء الكسور”.. الكاتبة..!
قبل أيام استوقفني خبر مُلهم مفاده أن زوجة أسيرٍ فلسطيني بالسجون الإسرائيلية قد وضعت توأماً عن طريق “نُطف مُهرّبة” نجح زوجها في تحريرها. ثم، وبعد عملية تلقيح صناعي فاشلة أعقبتها أخرى ناجحة جاء الصغيران “هاني” و”همام” إلى الدنيا بعد خمسة عشر عاماً – من أصل عشرين عاماً – قضاها والدهما في السجون الإسرائيلية، قبل أن يتَفتَّق ذهنه عن فكرة النطفة المُهرّبة، بعد إصرار السلطات الإسرائيلية على منع زوجته من زيارته..!
إلى جانب صلابة الإرادة التي تجلّت في هذه الحكاية لا تُعتبر تجربة هذين الزوجين الأولى من نوعها، فقد سبقتها حكايات ناجحة أخرى لتهريب نطف المساجين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بطرق مُعقّدة لا يتم الكشف عن تفاصيلها لدواعٍ أمنية..!
مَعلومٌ أن إنجاب الكثير من الأطفال هو أسلوبٌ راسخٌ في الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني كأول وأولى أساليب مقاومة الاحتلال ولتحقيق الغلبة في صراع ديموغرافي فرضته ظروف احتلال الأرض وإرادة المقاومة. وهي إحدى صُور تجليّات وعي الشعوب في كفاحها من أجل انتزاع الحقوق والحُريات وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية، لكنه وعي يتجاوز بعلو سقفه – في الغالب الأعم – وعي السياسيين، ويُجَاوز – بسِعَة منهجيته ورحابة مُنطلقاته – أفق الحاكمين..!
والشعوب من هذا المُنطلق تًتمايز وتَتباين وفقاً لموقعها من خارطة “الإرادة” التي تنقسم بدورها إلى إرادة حرة وإرادة موقوفة على إجازة القوى السياسية التي تتحرّك في مساحة شعاراتها المحدودة بعض الشعوب. لكن تفوّق الإرادة الحرة للشعوب ظل على الدوام أمراً محسوماً بحتمية التاريخ. والدليل على ذلك نجاح معظم الثورات التي تضرمها إرادة الشعوب من جهة، وفشل ذات الشعوب في تحقيق الاستقرار وإنجاح التحول الديمقراطي بعد أن تُسلم قيادة دفة آمالها وتطلعاتها إلى بعض القوى السياسية – التي تنشغل بالمحاصصة واقتسام الغنائم عن دورها الرئيسي في تمثيل إرادة ذات الشعوب التي ولّتها أمرها – من جهةٍ أخرى..!
نحن في السودان نواجه اليوم أخطر تبعات تغليب مُعظم فئات الشعب لإرادةٍ موقوفة على إجازة بعض القوى السياسية على إرادة الشعب الحرة المستقلة، النائية بسِعَة وعيها الجمعي عن لؤم المحاصصات والقعود السياسي عن الفعل، والمستعصمة – رغم الخيبة والإحباط – بعروة ثورتها الوثقى..!
الطبيعة التي لا تقبل الفراغ والتاريخ الذي لا يتستّر على الفشل يقولان إن ما يظنه البعض مآلاً ما هو إلا جولةً في معركة صراع الإرادات. بعد أن يطال الإحلال والإبدال مواقف بعض فئات الشعب المؤمنة ببعض الكيانات السياسية، وبعد أن يستوي الماء والحجر..!
لن يبقى هذا الشعب على تمسُّكه بجودة “الطرقة الأولى” في صاج الكسرة هذا. لأن نضوج بعض “الطَرَقات” تباعاً وعلى نحو أكثر تماسُكاً سوف ينقله رأساً من دائرة الانطباع الرخوة إلى مربع الإدراك الصلب القاطع. لأجل ذلك أقول إنّ استشراف مُستقبل الثورة في هذه الفترة هو الأولى، عِوضاً عن استدعاء ما حَاقَ بها. لأنّ الاستدعاء – ببساطة – يمنع التكرار، لكن الاستشراف هو الذي يصنع القرار..!