10ديسمبر2021م
(1)
هاشم صديق.. المبدع الكبير.. كتب اسمه بأحرف من نور ونار.. وقّع على دفاتر الحضور الجميلة بمفردة لا تعرف الغياب.. شاعرٌ ينتمي لطين وتراب الوطن.. عركته الحياة ولم تهزمه مُطلقاً لأنه متسلح بعزيمة لا تلين.. ظلّ هاشم صديق حاضراً عند الناس أجمعين.. ولكنه رغم ذلك يُوصف بأنه يجلس بعيداً عن الناس.. حتى أن البعض وصفه بأنه نرجسي (وشايف روحو) ولكن الرجل في إفادة له قال: النرجسية هي عشق الذات و(أنا لي سنوات ما قاعد أمرق من بيتي، أنا تطير عيشتي) ويمكن دي سمعة الاسم ورهبته و(أنا زول بيكره النجومية بالمعنى الغربي). (Untouchable) ومهموم بقضايا الناس فكيف أترفع عليهم؟!
وأنا أحب البسطاء وأعمل حسابي من كبار المسؤولين، فالعلاقة معهم زي التهمة تجدهم مهتمين بناحية الاستقطاب (يعصروا ليك حاجة) وأنا أموت ولا أفعل هذه الأفاعيل (أنا دُغري وشريف).
(2)
في مقدمة ديوانه الزمن والرحلة .. كتب هاشم صديق (لقد فقدت الإحساس بالاتجاهات الحادّة التقليدية والتي تجعل العالم مربعاً يمشي على أربعة أرجل, أو يحلق بأربعة أجنحة, أصبح العالم بالنسبة لي دائرة مُحكمة تعتلي صهوة الطوفان.. أسرجتني جذوة المعارك والكتابة والقراءة, ونفاذ بصيرة العذاب, وإحباطات العام والخاص… الخ, فولجت إلى مصلاة التأمل. وأصبحت لعبتي العبثية المفضلة -بالمفهوم الفكري – هي مراوغة ما يُواجهني من أقنعة ونزعها بغتةً أو خِلسةً.
(3)
الكاتبة منى أبو زيد قالت عن هاشم صديق (شعره العامي له رصيدٌ كبيرٌ من مُعانقة الهَمّ العام وأحزان البلد, فقد استطاع أن يلامس الشغاف دون مواراة لعمق التجارب الثائرة أحياناً والمحبطة أحياناً أخرى في تناولها للقضايا المُلّحة. وعند هاشم صديق القضية تتسع من هم ذاتي يخص فرد إلى هم عام يخص وطن، وما حاوله هنا استطاع أن يخرج بقصائده من الجدل المحتدم بين النسقين الخاص والعام إلى بر تجربة جديدة يقدم تفسيراتها وتحليلاتها أصالةً عن نفسه ونيابة عن بني وطنه في مثل رائعته (جواب مسجل للبلد):
يا بلد اسمعيني وهاكِ كل البيعة كاملة
اسمي هاشم، أمي آمنة
أبويا ميت وكان خُضرجي
ومرة صاحب قهوة في ركن الوزارة
بيتنا طين واقع مشرّم، ولما حال الطين يحنن
نشقى شان نلقى الزبالة
وما بهم
إنتي زادي… وقصري… والمال والكتابة
منّك اتعلمت أصبُر
وكيف أحس ألم الغلابة.
(4)
فلكأن البلد هنا حاضرة في صُمودها لنا جميعاً وفي وقت واحد وهو منحى عام نجده في أغلب نصوصه استطاع أن يرسّخ نغمتها المميزة ويجعلها شاهدة على جملة التحولات اللصيقة بالضمير الشعبي.
(5)
لم يجد هاشم صديق الطريق ممهداً له، ولا يُمكننا أن نتناسى تجارب أخرى اهتمت اهتماما بالغاً بالتجديد في ذات الأخيلة التي أهمّته مثل الرائعين محجوب شريف ومحمد طه القدال ثم عاطف خيري. أمّا غيره من مُجايليه شعراء الفصحى ممن سكنهم هاجس التواصُل وجدوا تراثاً مهده من سبقوهم من رُوّاد فتمدّدوا على تجاربهم بإبداعات غير مُنقطعة ولا مُختصمة مع ما سبقها، فكانت إنجازاتهم مُستندة على طرائق أدائهم الفني مع اجتهاد التجويد والتحديث، إلا أنّ هاشماً وقعت على عاتقه مهمة الانتقال بقدر من التمرد على واقع القصيدة ولكن بلمحة عصرية تنهل من واقع الشعب وتجاربه وانتمائه، فكان تحدي الوقوف والثبات على أرضية جديدة لم يحسن الناس التعرُّف إليها من قبل.