لماذا الكابلي!!
(1)
بعد عمر طويل حافل بالجمال ارتحل الفنان عبد الكريم الكابلي.. وهو فقد جلل وعظيم وسيترك فراغاً عريضاً يصعب سده .. لأنه لم يكن فناناً فحسب, وإنما كان هو النموذج الحقيقي للفنان المختلف الذي لا يشبه غيره في كل تفاصيله .. وعلى المستوي الشخصي أكن له محبة كبيرة وتقدير عظيم دونته في الكثير من الكتابات وهنا استعيد بعض الكلمات التي كتبته في محبته.
(2)
من العادات الحياتية التي أحرص عليها جداً ولا أتلاعب فيها مطلقاً اهتمامي العالي بأداء صلاة الفجر في المسجد .. ولست في مقام التذكير بأهمية ذلك .. ولكن تلك الصحوة الباكرة أفادتني صحياً وعملياً.. وفي كثير من الأوقات يسألني بعض الأحباب عن كيفية إدارة وقتي ما بين تحرير صفحة يومية في الصحيفة وما بين عملي كمنتج برامجي ولاحقاً مقدم لبرنامج (نقر الأصابع) الذي يُبث على قناة الخرطوم وهذا البرنامج أعده وأقدمه.. وصراحة كل التفاصيل تحتاج لمجهود بدني وذهني كبير ولكن (كلمة السر) تكمن في صلاة الفجر والوقت الذي يليها وما يكتنفه من هدوء وراحة نفسية عالية.. ففي ذلك الوقت أكون أكثر نشاطاً ودقةً.. ولعل عادة الصحوة الباكرة هي عادة ظلت تلازمني منذ الصغر.. حينما كنت أصحو مع والدتي لأداء صلاة الفجر ومن بعدها التحضير (لشاي الصباح) وصوت الراديو يتعالى وقتها بصوت محمد وردي وهو يغني
بتطْلَعِى إنتِ مـن غابـات
ومـــن وديــــان…
ومــنــي أنــــا..
ومِن صحْيَة جروف النيـل
مـع الموجَـهْ الصباحيَّـه
ومن شهقَة زهور عطشانَـهْ
فــــوق أحـزانـهْــا
مــتْـــكَّـــيـــهْ
بتَطْلَعي إنتِ من صوت طِفلَةْ
وسـط اللـمَّـهْ منْسـيَّـةْ
(3)
لم أكن وقتها أعرف صوت المغني ولا الشاعر.. ولكنها تفاصيل ظلت مختزنة في ذاكرتي تعرفت عليها لاحقاً حينما بدأ الشيب يعلو الرأس وتتكاثف الهموم.. لم يختزن في ذاكرتي فقط صوت محمد وردي وهو يغني الحزن القديم.. كان عبد الكريم الكابلي حاضراً أيضاً وهو يردد:
زمان الناس هداوة بال
وإنت زمانك الترحال
وليلم عمرو ما سآل
وليلك لي صباحو سؤال
قسمتك يا رقيق الحال
مكتوب ليك تعيش رحّال
تسامر في الغيوم أشكال
روائع تذهل المثّال
شي سيرة زفّة بي طبال
وعروسة في جبينا هلال
مواكب فرحة من أطفال
يحاكوا السمحة ست الخال
وقُبّال ما الصور تنشال
على خيوط الأمل والفال
وصبح الناس يجيك مرسال
(4)
وكابلي تحديداً كنت استمع له بكثافة أكثر في منزل العم والأستاذ الراحل سعيد الحسن .. وهو واحدٌ من رموز التعليم بمدينة كوستي .. كان بمثابة الوالد ومنزله هو المكان المحبب بالنسبة لي .. وأسرة العم سعيد الحسن تقريباً كلها تستمع لعبد الكريم الكابلي .. ونسبةً لتواجدي المكثف معهم انتقلت لي تلك المحبة .. وأصبح الكابلي هو (نموذجي الطيب) للفنان.. لذلك حينما يسألني بعض الفنانين الشباب عن بعض النصائح كنت أنصحهم بضرورة الاستماع لعبد الكريم الكابلي.. وذلك لعدة أسباب:
لأنه فنان على علاقة وطيدة مع أعماقه.. ولأن أجمل ما في غنائيته الإخلاص والبساطة والموهبة هي الشجاعة، لأن الجبن لا ينتج فناً، بل مرضاً يلبس مسوح الفن، وهو كذلك يمتلك خصائص شخصية ممتازة، وتضحيات لا حصر لها، ويربط بين الموهبة والقيم الأخلاقية ربطاً محكماً، لأن الإبداع الأصيل والخلق هما جناحا الفنان الحقيقي.. لذلك عبد الكريم الكابلي يعد نموذجاً أخلاقياً يمكن أن يقف عنده هذا الجيل.
عبد الكريم الكابلي إنسان متحضر مهذب, يكره الكذب كما يكره الطاعون، لا يتكلّف سلوكاً، فهو يتحرّك بين الناس كما يتحرّك في منزله الخاص، لا يثير ضجة كبرى حين ينجز عملاً فنياً، ولا يطبل لنفسه، ويتجنّب الأضواء ويفضل أن يكون بين الجمهور، وهو فنان واعٍ بموهبته لذلك ظل يؤثر في الناس ويعلمهم، كما هو مهتم بتثقيف نفسه في كل ساعة من ساعات حياته.
(5)
عبد الكريم الكابلي فنانٌ أصيلٌ ينقل بعضاً من ذاته إلى الناس، وبعضاً من شجونه وشؤونه، سروره وأحزانه، حبه وامتعاضه، انطوائه وانطلاقه في رداء شفيف من الفن الأصيل والإيحاء المبدع.. يؤدي الأغنيات بهدوء بعيداً عن الصخب.. يمنح الكلمة حقها ومُستحقها من حيث الإطار اللحني وينطقها بمنتهى السلامة, حيث تتميز مخارجة اللغوية بالسلامة ويختبئ في صوته قدرات هائلة على تصدير المعاني الشعرية.. كما أن صوته يتّسم بانضباط إيقاعي ممزوجة بعذوبة وملون بالزخارف وطبقة صوته تشمل التجانس الهارموني واللحني وذلك كله وفق ضوابط الميزان الموسيقي مع جودة في الطبقة الصوتية التي تمتاز بالحيوية والعذوبة والرقة واللطافة والرشاقة.