“عِصيفير المَحنَّة”..
لما تركتيني يا أمي وحيداً؟..
هل تظن ذلك حقاً، أي ابن ضال أنت يا حبيبي، كان صوتك العذب صوتي، إذ وبينما أغادر تركته سراً في سلة النفايات التي عشت فيها زمناً طويلا. وصفك غير العارفين بالجنون، وصدقت قولهم، لكنني كنت فيك يا حبيبي. هل شهد العالم وسامة ماثلة مثل وسامتك؟!.
“أخُت اللوم على نفسي”.. هي التجربة يا حبيبي، والحياة في أساسها لوم.. “الرادك لامك”، لا تكترث أنت معي الآن، لقد سبقتك لهذا المكان الأخضر، هيأت بروحي لك كل هذه الفضاء الرحب، كان العالم يحتاجك أكثر مني، ونذرتك له مُذ شعرت فرفرتك الأولى فيّ، هو يحتاجك جداً، معذب وتائه ومنغمر في البؤس، أنت صوت حنانه يا حبيبي.
في يوم كان مقداره خمسون ألف سنة صعدت إلى الله، وأنت جئتني في لمح البصر، كانت أغنياتك تصلني وكنت أطرب لصوتك أيضاً يذكرني بعالم أرضي زرته لبرهة وغادرته سريعاً. تركتك فيه تتعذب بالشجن والحنين.
هل تظن اننا نغتسل في نهر غير نهر الحنين، حنيننا المتواصل إلى كل شيء. نحن دفق حنين بالأساس.
أنت الآن في وطنك، لقد “عشت غريباً ومضيت غريباً”، وقمت بدورك على أكمل وجه. لكنه كان وطنيا أيضاً.. نعم، لكن كحال عارض، لحظة سائلة، والغناء سبيلنا للخلود، لهذا المكان، تذكرة سفر طويل ونهائي.
“حكايتي مع الملام طالت”.. ولكن ما بوسعنا أن نفعل، أعرف هذا، في كل رعشة بصوتك كنت “أُطل، أبصرني أهل حي العرب، وغازلك ناس بانت، والموردة كلها احتضنتك، امتصت رحيقك، انغمرت في نهر خمرها الأزلي، وكنت كلّما سكرت، كلما شعشعت صورتي أمامك، فتبتسم، ابتسامتك تلك كانت لغتي وحوارنا المتعاظم..
كنت أنا دالتك في كل هذا العالم، وكنت يقينك العميق بالغنى في أزمنة القحط، والانتماء في لحظة اللا يقين بشيء، والطرب حد الانتشاء في ساعات وأيام وأشهر المجاعة. لم أضيعك يا حبيبي ولم أتركك وحيداً.. صارت البلاد أمك من بعدي والنساء رحمك الحميم، وبيوت السودان الطيبة كلها بيتك.
“حبيبتي بستلطفها وما داير يزول يعرفها”.. أنت نفسك لم تكن تعرفها، كانت تحسها في كل شيء حولك ولكنك معمي بطينٍ ما، بجوقة عازفين سكارى، ببشر يضحكون من أعماقهم بصخب.