يحررها/ فضل الله رابح 4ديسمبر2021م
قبل أيام كتبت على صفحتي بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) تغريدة مصحوبة بفيديو عن تراث منطقة دار حمر الشعبي وكتبت عليها.. دلوكة صبايا دار حمر تصحي النائم.. تراث ثقافي شعبي كلماته بسيطة وقليلة لكنها عميقة الأثر.. مع دار حمر عش يوماً بلا هَمٍّ تعش يوماً خالداً أبد الدهر.
وجدت تلك المادة تفاعلاً كبيراً من المتابعين والمتلقين, حيث اتصل عليّ الزميل المعد بتلفزيون السودان خالد رمضان, مبيناً أنه خصص فقرة من برنامج صباح الخير عن هذه المادة وطلب مني ترشيح شخصيات لمزيد من الحديث والإيضاح عن مكنونات هذا التراث المنسي والغائب أو المغيب إعلامياً.. كما طلب مني الأخ الصديق الدكتور الغالي يحيى شقيفات رئيس تحرير صحيفة “الصيحة” تحرير مادة مماثلة عن هذا التراث الغائب عن حروف صحف الخرطوم كما لم ترصده عدسات كاميرات القنوات الفضائية السودانية ولا ناقرات الإذاعات الوطنية .. واستجابة لكل هذه المحفزات ونسبةً لانحيازي الحضاري لهذا التراث العميق والأدب القديم, نكتب اليوم عنه لنعرض بعضاً من مكنوناته .. ظل هذا التراث الشعبي منذ القدم ملمحاً من ملامح موروث مجتمع دار حمر, إذ يحشد الشعراء الشعبيون أفكارهم ومذاهب مجتمعهم وحكمتهم ويعرضونها على صور مقاطع غنائية ونوادر وحكايات أو في رموز وإشارات يسوقونها على ألسنتهم لحناً على طريقة الدوبيت وإيقاع الجراري والدلوكة والكدنداية والطمبور لتدخل ألطف المداخل على المجتمع الراقص فرحاً بزواج عزيز أو ختان أطفال أو فرحاً بقدوم مغترب ومهاجر سافر وغاب سنوات طويلة عن قريته فينظمون ليالي السمار, وتستحوذ هذه التراثيات بجمالها وحماسها ألباب الشابات والشباب حتى الكبار يأخذونها على ظواهرها الملحنة ويتم تناقلها جيلاً بعد جيل لأنها تحمل جواهر ومرامٍ نبيلة المقاصد والأهداف عن هذا المجتمع المحافظ.. كانت مناطق النهود.. الخوي.. أبو زبد.. غبيش.. ود بندا وصقع الجمل من أكثر المناطق ثراءً بالأدباء الشعبيين في شتى ضروب الغناء وتفريعاته الإيقاعية, حيث وثقت الإذاعة السودانية في خمسينيات القرن الماضي للشاعرة الحمرية (بندوسة) المقيمة بقرية خماس أغنية الجراري الشهيرة: (الله لي) التي حُرِّفت وشُوِّهت فيما بعد إلى (أندريا) وتغنت بها الفنانة نانسي عجاج.. شاعر الدوبيت أحمد ود أم بدة كان من أقدم شعراء الدوبيت الذين وثّقت لهم إذاعة كردفان وهو قد بدأ حياته بشعر الغزل في النساء قبل أن يمزجه بشعر الحماسة والفخر, وأذكر أولى قصائده الغزلية في الدوبيت تقول: “الحب والغرام مخلوق مع الإنسان.. حتى آدم وحواء ضاقو مرارة الحرمان”.
هابيل كتل قابيل ورد ذكره في القرآن الكريم.
وسرح موسى لشعيب بالغنم مجان.. قيس فوق ليلة مات ولهان.. وجميل في بثينة ألف بالشعر ديوان.
ود دكين فوق رية قصتو عمة السودان.. أنا تائه قلبي في بحور الغرام غرقان
لا شفت البحر لا بعرف العومان.. أنا كان نايم بهلوس وكان صحيت حيران
كاتلني العيونو زي عين الجدي النعسان..
قول يا خشمي أوعى يخونك التعبير.. زي ما بالشعر في بثينة غنى جميل
بدينا نقارن بين الناس وبين الريل.. لقينا جمالها زايد من جمالو كتير.
حكايات ليالي القرية..!!
نحن صغار في المرحلة الابتدائية بصقع الجمل, كانت إذاعة كردفان تسجل وتبث سهرات من برنامج ليالي القرية عن الأغاني الشعبية, كان يعدها ويقدمها الإعلاميان إبراهيم أبو كواية ومحمد آدم البدين وكنا نحرص على سماعها في سمر الليالي التي أنبتت فينا محبة تلك الأرض والرمال التي (نتبطح) عليها.. ليالي كردفان تأخذ متعتها من شوك أشجار سدرها وهشابها ومساحاتها المزروعة حقلاً وتمني وهي كانت وحدها ضوءاً يُغرِّد في أمسياتنا الجميلة.. كان الأدب الشعبي وقتها يفتح للشباب أبواب الحياة والهروب من تعاستها إلى المهاجر البعيدة.. العراق.. ليبيا والخليج وحتى في مهجرهم كان غناء التراث أنيسهم يستريحون فيه كما كانوا يستريحون إليه في أفراح قُراهم ووديانها الفسيحة.. وكثير من الذين يهاجرون إلى الخارج يعيدهم إلى الوطن سماع أغنيات التراث التي كانت عرشاً بوأ فنانو كردفان مكانة متقدمة في الفن السوداني.. إذ كان جميعهم مدخلهم هو الغناء الشعبي وقد حدثوا في طرق وأساليب عرضه وتغنوا بإيقاعات الدلوكة والجراري والمردوم منهم عبد القادر سالم وصديق عباس وعبد الرحمن عبد الله وأم بلينة السنوسي وآخرون.. وكان تراث دار حمر مثل الكوثر من حليب إبلهم وضأنهم الحمري الأصيل, وكانت الفتاة الحمرية تفاحة لشعراء البادية توقظ فيهم إلهام الشعر فيتوقد شعرهم غزلاً يضئ أمسياتهم مثل الشموع.. كان الشباب والشابات والشيب سماراً مسيقين حول أميرهم مغني الدوبيت أو الطمباري والفتيات يجئن بجمالهن وحيائهن اللافت, وأذكر أن الإذاعة القومية سجلت حلقات لشاعر الطمبور مسلم حسين جودة المقيم بقرية ضعين جودة ضواحي صقع الجمل وكانت أجمل الحلقات التراثية.
تحديثات (4) جي على تراث دار حمر..!!
وأحسب أن الفنان الحمري الشاب المبدع ناصر محمد أحمد الشهير محلياً بـ(ناصر الضعين) وخرطومياً بـ(ناصر التمني) قد أحدث تحديثات موسيقية على أغاني تراث دار حمر ورمزياته التصويرية, حيث رسم معالم جديدة وبارزة في تاريخ الأغنية الشعبية الحمرية الحديثة, وتنقل ناصر ما بين إيقاعات الكدنداية والطمبور والجراري ونقله إلى مهرجانات تجاوزت المحلية إلى العالمية, ومن أشهر أغنياته على إيقاع الكدنداية (عشة بني فكي.. أهلاً بالسلام.. يابت الكرام.. جانا جواب سلام.. فيه كلام جميل أبشري بالخير الكتير), كما تغنى ناصر على إيقاع الطمبور: (أبو رشيمة جوز البلوم يتقدل في الغيمة نسير سوا.. نجيمة الصباح ضوّت مع البواح.. عقلي التعلق راح في الزول الكلو سماح نسير سوا.. جاء ماري بالعصير قال لي مساء الخير.. جنني شال عقلي النقرابي درب الطير), والنقرابي درب الطير نوع من الوشم يرسم على خدود الفتيات.. كما تغنى ناصر بإيقاع الدلوكة (الخديرة السمحة جميلة.. خلتني في حيرة السمحة.. الخديرة يا ناس مافي غيرها), وكذلك تغنى على ذات الإيقاع (الناس حاسدنك يا منى ومافي أجمل منك يا منى.. سمحة درة فريدة.. إنتي غالية عزيزة.. حلوة زي الصيدة.. مَعَاكِ بتم الريدة).. تلك كانت أنساقاً من تراث دار حمر الذي لم يجد حظه من الذيوع والانتشار الإعلامي مع أنه سيق بنسق طروب سكب فيه خيرة شعراء الأدب الشعبي القدامى والمحدثون خيالاً خصباً وقدموا فيه مادة وأسلوباً جذاباً ومثيراً للاهتمام وتركوا طائفة من الأغنيات والمرويات انتزعت من الناس الإعجاب انتزاعاً.. ولست أريد أن استبق القارئ فأشرح له مغزى هذا الأدب الشعبي الرفيع من زاويتي وأفسد له متعة المعايشة التي أدعوه إليها ولا أريد فقط أن أعكس له مراد الأدباء وشعوب تلك الديار وشخصياتها وشاراتهم في النبل والكرم والشجاعة والإيثار والغزل, لكنني قصدت ألفت النظر إلى موروث ثقافي وإبداعي اجتهد فيه الشعراء والمغنون وبرعوا في تلحينه والاستشهاد به, بل قصدت أن أؤثر بأن أضع بين يدي القارئ ملامح ليأخذها ويعمل في ثنايا تفكيره ويتغلغل من ظاهرها إلى معرفة حقيقتها ويستنتج منها الدراسات والبحوث والقيم ويحسر بها القناع عن وجه الحق وليعرف حقيقة ذلك المُجتمع المُبدع.