3ديسمبر2021م
واليوم جمعة..
وكان عصر جمعة.. حين انطلقنا بعرباتنا الصغيرة التي صنعناها بأيدينا..
صنعناها من أجزاء صفيح… وبقايا إطارات قديمة..
وكان الانطلاق نحو صحراء ممتدة لما لا نهاية؛ من بعد تخوم البلدة الغربية..
وتحدينا بعضنا البعض… أينا يسبق الآخرين..
يسبقهم توغلاً في الصحراء… ثم رجوعاً إلى نقطة الانطلاق بجوار الطاحونة..
وانطلقنا… وجرينا… وعرقنا..
أو كما ترنم بلاص من كلمات الشاعر (جرينا… جرينا… لامن سال عرقنا)..
وبعيداً هناك لمحت شجيرات على جبانة من الرمل..
ومفردة جبانة تعني – بخلاف المقبرة – صحراء… أو بقعة مرتفعة مع استواء..
والمعنى الأخير هذا هو الذي أقصده..
وفي مثله قال الشاعر عمر بن أبي ربيعة؛ والذي اشتهر بقصائد الغزل:
وناهدة الثديــين قــلت لها اتـكي
على جبــانةٍ من الرمل لم تُوسَّدِ
فقالت على اسم الله أمرك طاعةٌ
وإن كنــت قد كُلفت ما لم أُعـوَّدِ
فهُرعت صوب الشجيرات هذه لسبب لا أعلمه؛ فهي ما كانت ذات ظل..
وكانت الوحيدة من نوعها بتلكم المفازة..
وما أظن إنساً – ولا أقول جناً – قد بلغها قبلي؛ ولا طيراً… ولا وحوشاً..
وهذا ما تأكدت منه عند إناخة دابتي عندها..
فكأني لم أكن أدفع بعربة صفيحٍ أمامي… وإنما هي دابةٌ حديد تجرني خلفها..
أو هذا بالضبط ما بدا كأنه حصل..
فقد تلفت ورائي بحثاً عن الرفاق… فهالني – بل أرعبني – ألا أجد لهم أثراً..
ثم ازددت خوفاً حين ثار الرمل… على حين فجأة..
ثم انشق جانبٌ من ستاره القاتم الذي أحاطني به عن فتاة في مثل عمري..
كانت شعثاء… غبراء… وذات ثيابٍ مهترئة..
وأظنها – وبعض الظن توسلٌ لمنطق الأشياء – ابنة أحد أعراب المنطقة..
رغم أني لم أبصر كوخاً لأحدهم في الجوار..
فاقتربت مني – وهي تبتسم ابتسامة لم أفهم مغزاها – ومدّت يدها لتصافح..
وعند ملامسة كفي كفها أحسست بلسعة غريبة..
وكأن يدها مصدرٌ لتيارٍ كهربائي خفيف… كالذي ينبعث من قماش (نايلون)..
أما الأغرب من ذلكم كله هو سؤالها لي..
فهي لم تنطق معي سوى بهذا السؤال الوحيد؛ ونصه (عندك فوش؟)..
وبدلاً من أقول لها: وما هو الفوش؟… أجبتها بالنفي..
فغدت ابتسامتها الغامضة ضحكةً أشد غموضاً… وغمغمت (يا خسارة)..
ثم اختفت في شبه العاصفة التي ثارت آنذاك..
وابتلعت الصحراء – من حولي – عاصفتها الرملية فجأة… كما بدأت فجأة..
فإذا بشجيرات العشب فقط هي التي هناك..
وكلما تذكّرتها الآن قفزت إلى ذهني كلمات الأغنية التي يصدح بها وردي:
لدروبــــك إنـــت مـــا شــــقن بوابيـــر
يا قشيش نص الخلا الفوق في العتامير
البكركر رعــده…. وديمة سماه عكـير
السـمح مرعــاك…. يـا قش التحاجيــر
فما أظن أن (بابور خلاء) – أي لوري – قد (شق) طريقه إلى حيث (مرعاها)..
ولكن أقراني شقوا طريقهم إلي بعد جهد..
وأقسموا أنني لم أكن أجري؛ وإنما بدوت كأني أطير أمامهم إلى اللا مكان..
إلى حيث ظهرت لي الفتاة من اللا مكان..
ثم اختفت في اللا مكان نفسه… وتركتني في اللا شعور بالزمان… والمكان..
وليتني أصادفها مرة أخرى..
لأقول لها: ما زلت إلى يومنا هذا – يا ابنة الصحراء – لا أملك فوشاً..
أياً كان الفوش هذا..
ويا خسارة !!.