نصر الدين العبيد يكتب : اتفاق البرهان – حميدتي – حمدوك.. المناسب فيه المكاسب
1ديسمبر2021م
تظل الثورة تبحث عن ثورة حتى تستكمل أهدافها.. ففترات الانتقال في الثورات السودانية السابقة مثل ثورة اكتوبر 64 وثورة ابريل 85، كانت قصيرة جداً مقارنة بثورة ديسمبر 2019 الحالية، فصغر الفترة سابقاً لم يمكن الناس من اكتشاف عيوبها وفشلها لكونها فترة مناولة حافظت على مكانة سائدة ولم تواجهه مشاكل مثلما واجهت ثورة ديسمبر 2019، فالواقع الذي نشاَ من الثورة الناقصة وضع الناس بين خيارين، نظام قبيح ذهب، ونظام أقبح أتى، لا بد أن يكون هناك طرفٌ ثالثٌ يمثل السواد الاعظم من الناس غير المهمومين بالحكم يريدون ان يعيشوا مرتاحين، فلن يقبلوا ان نخيرهم بين قبيح واقبح، بل إنهم سيرفضون الخيارين معاً لأن الثورة لن تكتمل ولن يكونوا ضحايا لذلك التغيير، ولعلهم أخذوا العبرة من الثورات التي قامت في بلدان من حولنا، حيث هرب الكثيرون من ويلات التغيير بحثاً عن وطن بديل، وان لم يكن كذلك لماذا فشلت الحكومات المنتخبة بعد ثورتي أكتوبر 64 وابريل 85. إن غياب المشروع السياسي الوطني عن الحكم يعني حضور الفشل، لأن المشروع السياسي الوطنى يعمل على توليد دولة المؤسسات الراسخة المحصنة، تذهب الحكومة وتبقى الدولة بمؤسساتها غير قابلة للكنس والإزالة ومثال ذلك مصر والجزائر. فالمعروف ان الحاكم في العالم الثالث عليه أن يأتي بحكمة تجمع النقيضين مصالح شعبه ووطنه، ومصالح ما يُسمى بالمجتمع الدولي، فإن انكفأ على مصالح وطنه وظلم المجتمع الدولي وهو اقدر وعجّل برحيله، وهذه المصيبة لازمتنا لما يربو عن السبعين عاماً لم ننجح طيلة هذه الفترة في بناء دولة المؤسسات العتيدة، كل ما انتجناه ودرنا حوله هو الحكم بمؤسسات الدولة، فتذهب الدولة بأكملها مع التغيير.. المؤسسة الوحيدة التي ظلت باقية هي المؤسسة العسكرية لأنها هي الضامن للتغيير والحارس له والمؤسس الاصيل لاي فترة انتقالية، ولعل السبب يعود لقومية ووطنية المؤسسة العسكرية.
كان المنتظر من ثورة ديسمبر ان تدير حوارا شاملا يؤسس لقيام دولة المؤسسات المستقرة التي لا تتغيّر مع الحكومات، غير أن الانشغال بأمور ليست من مهام الفترة الانتقالية أفشل بدايتها واستدعى التوقف لتصحيح المسار ووضع الثورة في نصابها وذلك هو ما حدث في الخامس والعشرين من اكتوبر وإن كان مفاجئاً او غير مقبول للبعض، لكنه كان ضرورياً ومبرراً، لأن اليأس تملك الشعب بأثره، وأعلن عجزه التام من متطلبات الحياة، ويرى أن الحكومة تتجاهل محنته وتتهاون في امر معاشه، فضلاً عن قيام ملامح.. والفترة الانتقالية المعروفة بأنها فترة قصيرة ذات واجبات محصورة، فازدادت المخاوف من تطاول أمد الانتقال والحكومة نفسها لم تباشر عملا واحدا من اعمال الاستعداد للتحول الديمقراطي كالإحصاء وتنظيم الحياة السياسية، فظن الناس ان الحكومة هذه تحكم بنية التأبيد، وان المعاناة هي الرفيق، فخاف الناس من فقدان التضامن الوطني حول قضايا السودان المصيرية مثل تحقيق الوحدة الوطنية وإقرار التداول السلمي للسلطة وإعادة تاهيل البلد اقتصادياً ليكفل العيش الكريم لأبنائه، بعيداً عن الإغاثات وثمرات.. لذا كان التغيير مطلوباً، وكذلك الاتفاق السياسي الذي تم في الحادي والعشرين من سبتمبر مرغوباً كما التغيير ولم يخيب الآمال، وقطع الطريق على التمزق والتشتت وضياع الهدف وجاء ملبياً ليس لطموحات السواد الأعظم فحسب، كما انه لفت الانتباه لخصوصية الفترة الانتقالية التي يجب أن تنفتح على المشاركة الأوسع والاتفاق الأجمع لتستمد قدرتها الخاصة، كما استمدت شرعيتها الخاصة من الوثيقة الدستورية التي حددت مهام الانتقال وأهدافه التي لا مناص من تحقيقها طالما أنها مرتبطة بقيد زمني معلوم، فكان لا بد من مواءمة الاستعداد مع مطلوبات الانتقال الواجبة التنفيذ، لأنّها قضية مصير ظل السودان يبحث طوال ثوراته للحكم المستقر.
فالمبادرة التي قادت للاتفاق السياسي بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان والدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء عالجت الفصام بين القوى السياسية فيما بينها من جهة والإدارة الأهلية من جهة، باعتبار ان الآدارة الأهلية هي الراعي المؤتمن والحريص على الاستقرار، ويعد الاتفاق الساسي الاخير تجسيدا لحنكة وخبرة القادة الثلاثة الكبار عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وعبد الله حمدوك، فقد اظهرت الازمة انهم زعماء لهم المقدرة على تجاوز المواقف المريرة والانتصار للسودان والتسامي فوق الجراحات والمرارات الخاصة، فهذه أخلاق زعماء نستطيع أن نقول إن السوان بخير وان قادته متحررون من الأطماع الشخصية ويتواضعون من جل السودان، وهذا يذكرني بمؤتمر الطائف 1982 الذي اجتمعت فيه الفصائل اللبنانية واتفقت على بقاء لبنان حرا ومتماسكا وتنعّم اللنبانيون من وقتها بمزايا الاتفاق ذاك، ثم ان الاتفاق اظهر ايضا القدرات الهائلة والهمة الرفيعة للجنرال عبد الرحيم دقلو الذي كان الشخصية المحورية في تقريب وجهات النظر للخروج بهذا الاتفاق الذي دفع بعملية التحول الديمقراطي لنحو خطوات التنفيذ.. وهنا يجب أن نقف عند حقيقة مهمة ابرزتها الأزمة الأخيرة دحضت ادعاء المدنيين لاحتكار الحكمة، وان التجربة العسكرية بنت شخصيات كانت لها البصمة في تاريخ بلدانها حتى فى امريكا.
إجمالاً، يمكن القول إن الاتفاق انتزعنا من أحضان الاختلاف والتشرذم والكراهية، وأحيا الآمال بأن الفترة الانتقالية قد تعافت وتقودها حكومة كفاءات لها القدرة على تحقيق المطالب المرسومة والاستجابة لشروط الانتقال بالإعداد لانتخابات حرة منتظرة والتي نعتقد أنها ستكون مختلفة، لأن الشعب اخذ يقوي أواصر صلاته متجاوزاً الأحزاب وخلافاتها، فاتجاهات التفكير في القضايا الوطنية تغيّرت، والحوار الذي كان محدوداً ومختصراً على الأحزاب بات جاذباً وفيه متسعٌ.
ولذلك ليس من الصحيح ان يدعي البعض انّ الدكتور عبد الله حمدوك خان حاضنته السابقة مقابل الخطوة الشجاعة التي قام بها في التوقيع على الاتفاق السياسي، لان المعروف بداهة ان من يريد بناء مجده الخاص، يلجأ للعناد، ومن يريد بناء مجد امته ينقاد.. فالرجال لانوا بوعي كبير، وتصدوا للمسؤولية في وضع إقليمي معقد بسبب الحروب المشتعلة ومجتمع دولي طامع مضافاً الى ذلك وضع داخلي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة تناسلت مع أزمات أخرى رهيبة وضعت هؤلاء القادة البرهان وحميدتي وحمدوك امام تحد تاريخي.. فهل نحن على اعتاب حقبة جديدة في تاريخ السودان السياسي..؟